مقالات
الوجود كصُدفة..تأملات عن الحرية
كلّ شيء يؤكد أنّ وجودنا مجرد صُدفة. ولدنا دون تخطيط، ولا أهداف محدّدة. كان يُفترض أن تستمر حياتنا مدفوعة بالمنطق البرئ نفسهض. لكنّنا تعرضنا لخديعة وجودية مرعبة، تورطنا في قبول تصورات أولية جعلت وجودنا مقيّدًا للأبد.
في البدء ظننا أن قبولنا لهذه الفكرة أو تلك سلوك عقلاني يساعدنا على الوعي بالعالم ثم الوعي بأنفسنا وموقعنا من هذا الوجود الغامض.
لكنّ حسن المبدأ هذا لم يُثبت صدقه أو براءته. لم يُحقق لنا الهدف نفسه الذي كنّا نبحث عنه.
لا الوعي بأنفسنا ولا تحديد موقعنا من العالم؛ بل العكس. حدث أن ازدادت مساحة الظلام أمامنا، وتضآل موقعنا في الوجود، وأكثر من ذلك لم نزدد قدرة على الوعي بأنفسنا. أما ما هو أكثر فداحة، فما عاد لنا الحق في العودة نحو حالتنا الأصلية، تلك البراءة الخالصة قبل تورّطنا في اعتناق هذا التصور أو ذلك. نقف مكبلين، فزعين، حيارى، نتلفّت في كل الجهات، ولا نرى مخرجًا من هذا المأزق الذي أوقعنا أنفسنا فيه دونما حاجة.
أنت في وسط البحر، ولا قارب قادر أن يعبّر نحو الضفة الأخرى دون مُحرِّك أو مُرشد يوضح لك الاتجاه. لا تستطيع المواصلة أملًا بالعثور على براءتك الأولى في الجانب الآخر، ولا يمكنك العودة واستحضار كيف كنت قبل أن تدخل اللعبة. تُحاول تذكّر ما الذي أوصلك لهذا الظرف، ولا شيء يُسعفك بالإجابة. تتذكر أن وجودك مجرد صدفة، لكنّ هذه الفكرة بقدر صحّتها ما عادت قادرة على أن تُعيد لك حالتك الكلية، وتنقية كامل قواك الداخلية مما علق بها.
وجودك صدفة أيّها الإنسان، تذكّر هذا دومًا. وليس في قولك هذا أي تجديف بحق الله. أنت لم تتحدث عنه لا سلبًا ولا إيجابًا، لربما يكون موجودا أو غير موجود. لكن ما يؤرقك هو وجودك أنت، وجودك الخفيف، قبل أن يتطور هذا الذي تظنّه عقلًا في رأسك، ويعمل بهدف إرشادك للحياة المثلى. هل الحياة، التي تعيشها، هي مثال أعلى. أيكون درب أمثل هذا الذي وجدت نفسك فيه تُصارع قوى لا تعلمها، سلطات تتنازعك ولا تقول لك لماذا عليك أن تفعل ما تفعل..؟ جهات عديدة تتحكم بك من الداخل والخارج، تفرض عليك وصايا وأحكاما، تعليمات وإشارات، حدودا وتشريعات. وليس هذا هو الأمر الغريب، بل الغرابة في شعورك بعدم قدرتك على رفضها، ولا حتى طاعتها.
تُحاول القبول بكل ما أنت عليه، لكنّ قبولك لا يقترب بك من العنصر المفقود، الحالة الأولى التي وجدت عليها. وهنا تتضاعف حيرتك، لا رفضك يجدي في استعادة حريتك الأصلية، ولا قبولك يعدك بالمكافأة. تستسلم لحظة وتتساءل: أمام استحالة كهذه، أيكون تلوّثك هو الهدف من وجودك. أهناك مخطط لا تعلمه؛ غايته أن يُفسد براءتك. ثم ما جدوى كل ما تحمله بداخلك، ما جدوى عقل يزعم أنّ إيمانك بما فيه ضروري لتطورك، وما غاية تطوّر يجعلك ضائعًا هناك، وسط جزيرة منسيّة وقد ورطّت نفسك بكل الأحمال الغريبة عنك.
تُردد في باطنك، أليس وجودي صُدفة، أُريد العودة إلى طفولتي..؟ هذا غير ممكن، يُجيبك الزمن والواقع بصرامة وقسوة. فتصرخ: أعيدوا لي براءتي، ولن أقول لكم إنني بحاجة لأي تصورات تساعدني في الوعي بالعالم، أو حتى الوعي بنفسي، ثم لا أرغب بفهم موقعي من هذا العالم، أنا راضي تمامًا بموقعي الأول ولا أُفتِّش عن مواقع جديدة، كما لا طموح لديّ بتوسعة مساحتي في هذا العالم الملوَّث. فتصرخ نفسك هذه المرّة في وجهك، هازئة بك: أنا موجودة، ويجدر بك احترام موقعي داخلك، وأي محاولة منك لاستعادة براءتك، هو تصريح عدواني منك، تعبير عن عدم إقرارك بي، واعترافك بوجودي؛ بل وبدوري في التحكُّم المركزي بكل دوافعك الخبيثة.
يا إلهي، يا لهذه المفاوضة العسيرة، إنني أخوض محادثة مع أشباح في عقلي، وأخرى في نفسي وأشباح أخرى، ثالث ورابع وعاشر وبلا نهاية تقع خارجي، ترفض أن تمنحني شيئًا مقابل أن أتخلّى لهم عن كل ما منحوه لي. إنني لا أُطالبهم بشيء يمنحوه لي، فقط، بحقي في أن أعيد لهم ما منحوه لي، خذوا تصوراتكم، أحكامكم، تعاليمكم، حدودكم، نظرياتكم، خذوا حصتي من العالم، حتى "اسمي" هذا العنوان الذي أرهقني بملازمته لي أينما حللت. حتى في أشدّ لحظاتي عزلة وانفصالًا عن العالم، أفشل في أن أحيا وجودي أو أُفكِّر بحالتي دون حضوره الخفيّ كمراقب يرصد ما أُفكِّر به، بل ويُملي عليّ مواضيع تأمّلي.
أعيدوني طفلًا، وإن لم يوافق الزمن على ذلك، أعيدوا لي براءتي الأولى، ولو كنت قد شارفت على التسعين، أودّ النظر للأشياء كما كنت أفعل قبل أن أكتسب عقلًا، قبل أن أدرك اسمي، قبل أن أحفظ الكلمات، وقبل أن أتعلّم اللغة، قبل أن أمتلك شيئًا. أعيدوني إلى هناك، أو حتى جنينًا في بطن أمي، بل نطفة في ظهر أبي، نطفة بريئة، يحفظها هناك، فلا ينهك نفسه ولا يُلقيني هنا، في هذا الخلاء، شاردًا، محمّلًا بأثقال لا أفهم الغاية منها، ومحرومًا من حق الوصول وحق العودة.