مقالات
الوحدة اليمنية.. لحظة للمراجعة
في الثاني والعشرين من مايو 1990، لم يكن اليمنيون على موعد مع يوم عادي في تاريخهم، بل مع لحظة فاصلة شكلت تتويجًا لمسار نضالي طويل واختزالًا لحلم وطني كان يراود الأجيال منذ عقود.
في تلك اللحظة أعلن قادة الشطرين، الرئيس علي عبد الله صالح ونائب الرئيس علي سالم البيض، قيام الجمهورية اليمنية، في مشهد استثنائي قوبل بفرح شعبي واسع وتفاؤل حذر.
وبعيدًا عن الأدلجة والانتقائية، فإن الإنصاف الأخلاقي والعلمي يفرض علينا الاعتراف بأن هذا الإنجاز لم يكن ابن صدفة، بل ثمرة جهود طويلة وتوافق وطني واسع، ساهمت فيه أطياف من السياسيين والمثقفين والمواطنين.
الرئيس علي سالم البيض مثَّل في لحظة من اللحظات اليمنية الفارقة صوتًا شجاعًا واتخذ مع رفاقه في مجلس الشعب الأعلى والحكومة والمكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني قرارًا مصيريًا بتجاوز الماضي، وتقديم تنازل تاريخي لصالح ما اعتقد أنه مستقبل جامع لليمنيين.
لكن، وبعد خمسة وثلاثين عامًا على هذا الحدث الجليل، لا يسعنا أن نحتفل به اليوم ليس كذكرى بل عيدًا في معزل عن واقع مأزوم، آخذ في التشظي تهدده التناقضات الداخلية والصراعات الإقليمية والدولية. فاليمن اليوم ليس فقط منقسمًا سياسيًا وجغرافيًا فحسب، بل يقف أمام أخطر مفترق طرق في تاريخه الحديث حيث لم تعد الوحدة مجرد حالة وطنية قائمة بل باتت سؤالًا وجوديًا مطروحًا بإلحاح: هل ما زال بالإمكان إنقاذ اليمن كوطن موحد أم أننا في طريق اللاعودة؟
أولًا: لماذا تآكل مشروع الوحدة؟
إن طرح سؤال: "لماذا تآكل مشروع الوحدة اليمنية؟" لا يجب أن يكون نابعًا من نزعة جلد الذات أو الحنين إلى ماضٍ مثالي لم يلمسه الناس، بل من منطلق وطني مسؤول يدرك أن ما وصلنا إليه اليوم لم يكن قدرًا محتومًا بل نتيجة لمسار من الأخطاء البنيوية والسياسية الجسيمة. فما حدث لم يكن انهيارًا للوحدة كقيمة وطنية أو حلم جمعي، بل تآكل تدريجي لمشروعها السياسي بسبب إخفاقات ممنهجة في إدارة هذا المنجز التاريخي.
فالوحدة اليمنية، التي أُعلنت في 22 مايو 1990، لم تكن صدفة ولا مجاملة سياسية بين قيادات وشعب، بل كانت ذروة مسار نضالي طويل خاضته أجيال من اليمنيين في الشمال والجنوب والشرق والغرب، دفعوا في سبيله أثمانًا باهظة كل القوى الوطنية في الجنوب والشمال والشرق والوسط، منذ باذيب والنعمان والجاوي والرئيس قحطان الشعبي، والرئيس عبد الله السلال، والقاضي عبد الرحمن الإرياني، والرئيس علي ناصر محمد، والبيحاني، وفيصل عبد اللطيف، وياسين سعيد نعمان، ومحمد سالم باسندوة، وصالح مصلح، وعلي عنتر، وشائع، والرئيس حيدر العطاس، والشهيد إبراهيم الحمدي، وسالمين، وعبد الفتاح إسماعيل، وجار الله عمر، وأنيس حسن يحيى، ويحيى العرشي، وراشد محمد ثابت، وبن حسينون... وغيرهم الكثير من المناضلات والمناضلين.
وفي قلب هذه اللحظة التاريخية، برز الرئيس علي سالم البيض، الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، كصوت وحدوي شجاع لم يختر فقط التوقيع على وثيقة الوحدة، بل قدّم تنازلًا سياسيًا نادرًا، وضع فيه مصلحة اليمنيين فوق مصالح النخبة الحاكمة في عدن. فقد مثّل البيض في ذلك المنعطف الحالم الكبير الذي راهن على أن الوحدة ستكون بوابة اليمن نحو الدولة المدنية الحديثة والمواطنة المتساوية، رغم إدراكه المبكر للمخاطر والهوة بين الواقع والطموح، النظرية والتطبيق.
ومن المهم التأكيد أن مشروع الوحدة لم يكن، في جوهره، نتاج إرادة شمالية خالصة، بل كان -تاريخيًا- مطلبًا وطنيًا أصيلاً حملته نخب الجنوب ووسط اليمن منذ خمسينات القرن الماضي.
تبلور هذا المشروع في مخرجات مؤتمر القاهرة 1965، ثم في اتفاقيتي القاهرة (1972) وعدن (1989)، وكان أبناء وقادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية -على مستوى الدولة والنخبة- هم من بادروا بالدعوة إليه والسعي لتحقيقه. فقد مثلت الوحدة بالنسبة لهم تصورًا وطريقًا لتحرير الإنسان اليمني وبناء دولة حديثة تتجاوز الانقسامات، لا مجرد توحيد جغرافي، بينما تعاملت بعض قوى الشمال، خصوصًا التقليدية منها، مع الوحدة كأداة لتعزيز نفوذها السياسي لا كمرتكز لبناء دولة شراكة ومواطنة.
هذا التفاوت في الرؤية مثَّل أحد أبرز التحديات البنيوية التي واجهت التجربة الوحدوية منذ لحظتها الأولى.
لكن، في الوقت نفسه، الطرف المقابل بقيادة الرئيس علي عبد الله صالح ومنظومة الحكم في صنعاء لم يكن بنفس مستوى التجرد أو النضج السياسي. فقد سعت السلطة الشمالية إلى احتواء الوحدة لا إنجاحها، وتحويلها إلى ضم سياسي أكثر منه شراكة وطنية، وتم التعامل مع الجزء الجنوبي من الوطن كغنيمة سياسية لا كشريك متكافئ. وجرى التمدد الإداري والأمني والاقتصادي من المركز دون مراعاة لتركيبة جنوب الوطن السياسية والاجتماعية، حيث تم القفز على استحقاقات كبرى مثل العدالة الانتقالية ودمج القوات المسلحة وإعادة تأهيل مؤسسات الدولة وكوادرها، وإطلاق عملية تنموية شاملة، والتوزيع العادل للثروة والسلطة.
بل إن ما جرى بعد الوحدة كان كارثيًا على مستوى القيم الوطنية، فقد تعرّضت كوادر الحزب الاشتراكي اليمني (شريك الوحدة الأساسي وبطلها الأول) لحملات اغتيال وتصفية ممنهجة في وضح النهار استهدفت العقول، والكفاءات، والقيادات الوسطى، في ظل غياب أي محاسبة أو تحقيق شفاف، بل وسط تواطؤ مؤسساتي ضمني. ولم تكن هذه الجرائم سوى نذير لانفجار قادم تجلى في حرب صيف 1994، حين انقلبت السلطة على شريكها بالحسم العسكري، وقضت عمليًا على فكرة الشراكة التي تأسست عليها الجمهورية اليمنية، فانتصرت القوة العسكرية حينها لكن مشروع الوحدة تلقّى أول طعنة غائرة.
وبالرغم مما قيل عن "الانتصار"، فقد كان ذلك بداية التآكل الحقيقي، فالدولة تحوّلت تدريجيًا إلى كيان سلطوي مركزي يديره تحالف ضيق من القوى النافذة -دينية وقبلية- التي لم تؤمن يومًا لا بالمواطنة ولا بالمؤسسات. فجرى إقصاء قوى الوحدة سياسيًا واقتصاديًا، وأُعيد إنتاج التهميش، وعسكرة الحياة العامة، وانكمش الفضاء المدني، وجرى تفكيك الهوية الوطنية الجامعة لصالح هويات جهوية ومناطقية، غذّاها غياب الإنصاف وازدهار الفساد والمحسوبية، الأمر الذي دفع اليمنيين واليمنيات إلى الثورة عليه في فبراير 2011، ولكن هذه المرة من داخل إطار "الوحدة".
لكن ما تعرّض له الحزب الاشتراكي اليمني من عمليات إقصاء سياسي وتصفية ممنهجة استهدفت قياداته ونفوذه بعد إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، بفعل تغوّل قوى النظام التقليدية وهيمنتها على مفاصل الدولة، لا يُبرر خيار الانفصال الذي أعلن لاحقًا من قِبل نائب رئيس الجمهورية وشريك الوحدة الأول، الأستاذ علي سالم البيض، في 21 مايو 1994.
إذ لم يكن ذلك الخيار يمثل مقاربة إستراتيجية ناجعة، ولا استجابة مسؤولة لتحديات تلك المرحلة. فبدلاً من معالجة اختلالات ما بعد الوحدة عبر آليات وطنية إصلاحية تضمن التوازن والشراكة، شكّل إعلان الانفصال ارتدادًا عن المشروع الوطني ومقدمة لمزيد من التفكك المؤسسي والاجتماعي، وهو ما انعكس سلبًا على الاستقرار السياسي ووحدة القرار السيادي، وأدى إلى خلق بيئة هشة للصراع والتمزّق ما زالت تداعياتها ماثلة حتى اليوم.
إن ما حصل -سواءً من إقصاء وتهميش للحزب الاشتراكي اليمني وكوادر الوحدة القادمة من الجنوب العزيز من قِبل نظام علي عبد الله صالح، أو ردة فعل نائب رئيس الجمهورية علي سالم البيض بإعلان "فك الارتباط"- لم يكن خطأ يمكن تجاوزه، بل خيانة فعلية لروح الوحدة، ولمبادئ الحركة الوطنية اليمنية التي قدمت عبر عقود طويلة قوافل من الشهداء والمناضلين، في سبيل يمن موحّد وعادل، حديث، يتساوى فيه المواطنون أمام القانون.
هذا التراث النضالي، الذي اجتمع فيه رجال ونساء من مختلف المناطق والتيارات، لم يكن يومًا ملكًا لنخبة حاكمة، بل أمانة في عنق كل من آمن بحلم الدولة اليمنية الواحدة.
واليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود على تلك اللحظة التأسيسية التي أُعلنت من الخبية عدن، نجد أنفسنا أمام خطر حقيقي يهدد مستقبل اليمن، لا بسبب الوحدة، بل بسبب من أفرغوها من مضمونها، وضيّعوا فرصة البناء على أسس قوية. ومع ذلك، فإن الرهان على شعبنا لم ينكسر، فالجيل الجديد الذي تمثله قوى فبراير الحية من بنات وأبناء اليمن في شرقه وغربه، جنوبه وشماله، الذي لم يكن جزءًا من حقبة الفساد أو القمع، يمتلك اليوم من الوعي والطاقة ما يؤهله لقيادة مشروع وطني بديل يعيد الاعتبار للوحدة كخيار إستراتيجي لا كترتيب سياسي هش.
ثانياً: الدور الإقليمي والدولي في تعميق الانقسام
لا يمكن الحديث عن أزمة الوحدة اليمنية بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي، فقد تعرَّض اليمن منذ أكثر من عقد لتدخلات مباشرة وغير مباشرة، حوَّلته إلى ساحة صراع جيوسياسي بين قوى إقليمية متنافسة. بسبب ذلك، تحوّل اليمن -للأسف الشديد- إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، أدت إلى تعقيد المشهد وخلقت حالة من "الارتهان الدولي" لمؤسسات ومنظمات.
وتحت لافتة الشرعية تارة، والحرب على الإرهاب تارة أخرى، أُفرغت الدولة من مضمونها، وتحول القرار السيادي إلى رهينة لمصالح أطراف خارجية لا ترى في وحدة اليمن إلا عائقاً أمام مشاريعها التوسعية أو الأمنية.
ساهم البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي وُضع تحت اليمن منذ 2015، في تعميق هذه التبعية للخارج وتآكل السيادة الوطنية، وتعطيل أي حل سياسي حقيقي ينبع من داخل اليمن نفسه. بدلًا من دعم بناء الدولة، ساهمت بعض هذه القوى في إنشاء مليشيات موازية وسلطات أمر واقع، ما أنتج بيئة مرشحة دوماً للانفجار. هذه التدخلات، وإن بدت في ظاهرها دعماً لأحد الأطراف، إلا أنها في جوهرها تُسهم في إضعاف الدولة وتمزيق النسيج الاجتماعي، وتقدّم مساحات خصبة لتفاقم الأزمة الإنسانية وحرمان المواطن اليمني من أبسط حقوقه وحرياته.
ثالثًا: الكلفة المجتمعية لانهيار مشروع الوحدة
الوحدة ليست حدثاً سياسياً فحسب، بل لها أبعاد مجتمعية وإنسانية عميقة. اليوم يُدفع المواطن اليمني -شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا- ثمن انهيار المشروع الوطني، ويعاني من واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم.
ملايين يرزحون تحت خط الفقر، والمجاعة تهدد حياة ملايين آخرين، وقطاع الصحة والتعليم يكاد ينهار بالكامل. النزوح الجماعي، وتهتك النسيج الاجتماعي، وارتفاع معدلات العنف والانتحار، مؤشرات على عمق الأزمة.
بل إن قضية الأسرى والمخفيين قسراً تُشكل اليوم جرحًا نازفًا في الضمير الوطني، وتراجع فضاء الحريات العامة، وكارثة هجرة الكوادر والعقول العلمية.
إذْ تحوّلت هذه القضايا الإنسانية إلى أدوات للمساومة السياسية، دون أن تحظى بمعالجة عادلة تحفظ للإنسان اليمني كرامته وحقوقه. إننا اليوم نشهد دفع ثمن باهظ جراء هذه الصراعات من خلال هذه المعاناة الإنسانية، وتشتت الأسر، وتدمير البنية التحتية، وهو ما يهدد ليس فقط مستقبل الوحدة بل مستقبل الدولة اليمنية ككل.
رابعاً: ما الذي تبقى من مقوِّمات الصمود؟
رغم هذا الواقع القاتم، فإن الرِّهان على الشعب اليمني لا يزال مُمكناً. لقد أثبتت السنوات العجاف أن المجتمع اليمني يملك من مقوِّمات الصمود والتضامن ما يفوق تصور كثير من المراقبين. مبادرات شبابية ومجتمعية ظهرت في مختلف المناطق لتعيد التوازن في وجه الانهيار، كما أن جيل الشباب، الذي لم يكن جزءًا من منظومة الفساد أو الصراع، يمتلك اليوم طاقة هائلة يمكن أن تُستثمر في إعادة بناء الوطن على أسس جديدة.
هؤلاء الشباب والفتيات، إذا ما مُنحوا الفرصة، يستطيعون أن ينتجوا مشروعًا وطنياً جامعًا يتجاوز الثأر والانتماء الضيق نحو دولة المواطنة والعدالة.
لا يريبني شك أن منحهم/منحهن مساحة للعمل السياسي والمدني هو الكفيل الوحيد بخلق جبهة وطنية ضاغطة قادرة على قلب المعادلة.
خامساً: الوحدة كخيار إستراتيجي لا تكتيكي ونحو خارطة طريق للخروج من النفق
لقد أثبتت الوقائع أن الحفاظ على وحدة اليمن ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية وأمنية وتنموية. لكن وحدة 1990 لا يمكن أن تُستعاد بالصيغة القديمة نفسها. فالضرورة تؤكد أننا بحاجة إلى مشروع وطني جديد أكثر نضجًا وشمولًا يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن على أسس من المواطنة والمساواة واللامركزية الرشيدة.
إن إنقاذ الوحدة اليمنية لا يعني البتة الحفاظ على خارطة جغرافية موحّدة فحسب، بل يتطلب إعادة تعريفها كخيار إستراتيجي وجودي، يستند إلى مبادئ تأسيسية غير قابلة للمساومة، يُبنى على نضالات وتضحيات اليمنيات واليمنيين، قائمة على الشراكة الحقيقية بين مكوِّنات المجتمع، وتستمد شرعيتها من إرادة الشعب وتضحيات أجياله.
منذ انطلاقة المشروع الوطني في السادس والعشرين من سبتمبر والرابع عشر من أكتوبر، وصولًا إلى 22 مايو 1990، فليست الحلول الظرفية أو الترتيبات الهشة ما سيعيد لليمن توازنه، بل مشروع وطني شامل يقوم على خمسة ركائز إستراتيجية:
1. عقد اجتماعي جديد مبني على التوافق والاتفاق الوطني
أ- إقرار دستور اتحادي يعترف بتعدد اليمن السياسي والثقافي والاجتماعي، ويقوم على أساس الشراكة المتساوية بين الأقاليم في إطار وحدة وطنية جامعة.
ب- ضمان الحقوق السياسية والثقافية لكل مكونات اليمن مع إلغاء المحاصصة الحزبية والجهوية، وتحقيق مشاركة حقيقية لكل فئات الشعب في صناعة القرار.
ج- بناء مؤسسات اتحادية فعالة تحترم سيادة القانون وتخضع للمساءلة الشعبية، مع تمكين الأقاليم من إدارة شؤونها التنموية والخدمية، بما يعزز اللامركزية ويحد من الهيمنة والصراعات المركزية.
2. مصالحة وطنية شاملة كركيزة أساسية للسلام الدائم
أ- تطبيق مخرجات الحوار الوطني التي تدعو إلى العدالة الانتقالية ومعالجة كافة أشكال الظلم التاريخي، عبر آليات شفافة ومستقلة.
ب- ضمان إعادة إدماج جميع الفئات الاجتماعية والمناطقية في العملية السياسية، مع إعطاء أولوية لقضايا الأسرى والمختفين، وحل النزاعات القبلية والمناطقية بأساليب سلمية.
ج- بناء ثقافة التعايش واحترام التنوع كركيزة وطنية لا تتجزأ.
3. فك الارتباط مع التدخلات الخارجية عبر سيادة وطنية كاملة
أ- تنفيذ آليات رقابة وطنية ودولية لضمان حياد العملية السياسية، ومنع تسليح ودعم أي طرف من الخارج.
ب- تحويل الدعم الدولي من الإغاثة إلى برامج تنموية مستدامة تستهدف إعادة بناء البنية التحتية، وتعزيز الاقتصاد الوطني في جميع أقاليم اليمن.
ج- تعزيز دور الأمم المتحدة والمجتمع الدولي في دعم حل سياسي داخلي يمني - يمني، يحترم إرادة الشعب اليمني كاملة دون وصاية خارجية.
4. بناء مؤسسات اتحادية سيادية، مهنية، ومحايدة
أ- تنظيم الجيش والأمن ضمن هيكل اتحادي يضمن تمثيلًا متوازنًا لجميع الأقاليم، مع ولاء دستوري موحّد للدولة الاتحادية.
ب- استقلال القضاء الاتحادي والمحلي، وإعادة هيكلة الأجهزة الرقابية لضمان نزاهة وشفافية عملها على كافة المستويات.
ج- حصر السلاح بيد الدولة الاتحادية، وإنهاء العسكرة غير الرسمية، والحفاظ على أمن واستقرار كل إقليم ضمن الدولة الموحّدة.
5. تنمية عادلة وشاملة في إطار اتحادي متوازن
أ- اعتماد خطط تنمية إقليمية متكاملة، تتماشى مع الفروق الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية لكل إقليم، ضمن إستراتيجية وطنية تعزز التكامل والتنمية المستدامة.
ب- توفير خدمات أساسية متساوية عبر الأقاليم في التعليم والصحة والبنية التحتية، مع دعم خاص للمناطق المتضررة من الصراعات.
ج- دعم الاقتصاد الوطني من خلال مشاريع اتحادية تعزز فرص العمل، وتحفز الاستثمار المحلي والدولي في جميع الأقاليم.
ملاحظة:
إن بناء دولة يمنية اتحادية مدنية حديثة هو الحل الجذري، وينظر كثير من القوى الوطنية لإنقاذ الوحدة واستعادة الدولة باعتباره آلية فعالة لتقاسم السلطة بشكل عادل، وتمكين الأقاليم وتحقيق التنمية المتوازنة وكسر دائرة الاستقطاب والتفكك التي شهدتها اليمن لسنوات.
فالمشروع الوطني الشامل الذي يضم مخرجات الحوار الوطني ويطبق النظام الاتحادي ليس خياراً فحسب، بل ضرورة حتمية للبقاء وسبيلاً لتجاوز مرحلة الصراع المفتوح ولبناء يمن جديد يسوده السلام والعدل والكرامة لكل أبنائه.
والحق يُقال: فقضية كوادر الوحدة الجنوبية المسرحون من الخدمة العامة والجيش هي جرح مفتوح وعامل رئيسي في تأجيج الأزمة وفقدان الثقة بالدولة الوطنية، وأي مشروع وطني لإنقاذ الوحدة يجب أن يعالج هذه القضية أولاً بحسم وعدالة كاملة؛ لأنها ليست مجرد مطلب حقوقي بل ضرورة إستراتيجية لبناء وحدة حقيقية ومستدامة.
6. إنصاف الكوادر الجنوبية المسرّحة ورد المظالم
أ- تنفيذ آليات فورية وشفافة لإعادة تقييم حالات المسرَّحين من الخدمة العامة والجيش خلال وبعد الوحدة، وتصحيح أوضاعهم وفق معايير واضحة ومهنية، بعيدًا عن الاعتبارات السياسية الضيقة أو الانتقامية.
ب- تعويض من تعرَّضوا للظلم المادي والمعنوي، وإعادة الاعتبار الكامل للشخصيات الوطنية من الجزء الجنوبي من الوطن المناضلة التي ضحت من أجل الوحدة والسلام.
ج- إدماج هذه الكوادر في مؤسسات الدولة بشكل عادل ومنصف، مع ضمان فرص متساوية في الوظائف الحكومية والقيادية، ما يعزز الثقة ويقلِّص الانقسامات القائمة.
د- فتح حوار وطني شامل حول القضية الجنوبية، يهدف إلى تصحيح الأخطاء التاريخية وتحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية بين أبناء الوطن الواحد على أساس العدالة والمواطنة المتساوية والشراكة الحقّة.
ملاحظة:
هذه الخطوة ليست فقط مطلبًا أخلاقيًا وقانونيًا، بل هي ركيزة أساسية لنجاح أي مشروع وطني مستقبلي؛ لأنها تعالج جذور الغضب والتمزق وتعيد بناء الوحدة الوطنية على أسس متينة من العدالة والمساواة.
فليس لليمن ترف المزيد من التمزق، ولا وقت لمقترحات مجتزأة تعيد تدوير الفشل.. والمشروع الوطني الجامع لم يعد مجرد خيار نظري؛ بل شرط حيوي لبقاء الدولة ذاتها.
فالوحدة إن لم تُؤسس على الشراكة والعدالة، ستتحول إلى عبء ومصدر للانقسام لا رافعة للتقدم.
والخروج من هذا المسار الانحداري يتطلب شجاعة سياسية ومصارحة تاريخية، وإرادة وطنية تتجاوز الحسابات الفئوية لتضع اليمن فوق الجميع.
وإذا كنا نحتفي اليوم بذكرى إعلان الوحدة في 22 مايو، فليكن هذا الاحتفال مختلفًا عن سابقيه، وليس مجرد طقوس خطابية أو تمجيد أعمى لتجربة اعتراها الفشل، بل لحظة جريئة للمراجعة والمساءلة ولإعادة تعريف معنى الوحدة في وجدان اليمنيين.. وحدة بلا عدالة لا تُبنى، وحدة بلا شراكة حقيقية لا تصمد.. وحدة بلا دولة مدنية حديثة حارسة للحقوق والحريات.. ليست سوى عنوان مهجور لحلم مهدور.
فلقد آن الأوان لإعادة التأسيس من نقطة الصفر، ولكن لا على أنقاض الماضي، بل عبر الاستفادة من دروسه القاسية.
ولعلّ أبرز ما أنتجه التوافق الوطني قبل أن تداهمه دوامة الصراع هو مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، التي مثّلت لأول مرة مشروعًا جامعًا لتأسيس دولة جديدة على أسس المواطنة واللامركزية والتوزيع العادل للسلطة والثروة والاعتراف بالتنوّع الثقافي والتعدد السياسي ضمن إطار دولة اتحادية مدنية حديثة.
إن دولة مدنية حديثة تقوم على سيادة القانون، واستقلال القضاء، ودمج الهويات المحلية ضمن هوية وطنية جامعة؛ ضرورة وجودية لبقاء اليمن ككيان موحد.. فلا وحدة تُفرض بالقوة، ولا وطن يُبنى بالإقصاء.. بل بشراكة حقيقية، تُراعي الهويات وتحترم التعدد وتصون الحقوق والحريات العامة وتحمي الإنسان كأغلى ما تملكه البلاد.
نعم.. سيكتب التاريخ من تواطأ على تمزيق اليمن، كما سيكتب -بكل فخر- أسماء أولئك الذين واجهوا التيار، ورفعوا راية الوطن فوق رايات العصبية والطائفية والمصلحة الضيقة.
هؤلاء العقلاء من بنات وأبناء اليمن ومن كل الأطياف والانتماءات هم/هن وحدهم/ن القادرون على إنقاذ ما تبقى من الحلم وإعادة صياغته بما يليق بتضحيات الأجيال، ونضالات الحركة الوطنية وآمال الشباب الذين لم يختاروا الخراب بل وُلدوا فيه.
فليكن هذا العيد الوطني ليس فقط مناسبة لرفع الأعلام، بل لحظة صدق جماعي، إعلانًا صريحًا بأن الوحدة التي نريدها هي وحدة العدالة، وليست وحدة الجدران.
وأننا مهما بلغت الخلافات، ومهما تباعدت المسافات نؤمن أن اليمن يتسع للجميع، ولن تكون له قيامة إلا بدولة حديثة مدنية، عادلة، تحترم إنسانه وتستثمر في طاقاته وتضمن له حق الحلم والاختلاف والمواطنة الكاملة.
فالوحدة ليست ماضٍ يُبكى عليه بل مستقبل يجب أن يُبنى.. ولا مستقبل لليمن خارج إطار وحدة متجددة، عادلة، وديمقراطية.
وعلى هذا الطريق لا خيار سوى استعادة البوصلة الوطنية والانطلاق من المشترك لا من المختلف، ومن التوافق لا من الغلبة، ومن الدولة لا من الجماعة.
سادسًا: الذات اليمنية بين الوعي والكرامة
إن أحد أخطر تداعيات عقود من الصراع، والإقصاء والفساد ليس فقط في تدمير مؤسسات الدولة، بل في تقويض الذات اليمنية نفسها، وتشويه وعي الإنسان اليمني بذاته وبوطنه.. فلقد تم تفريغ المواطن من ثقته بوطنه، وتهميش تاريخه، وطمس ملامح شخصيته الحضارية المستقلة التي تشكلت عبر آلاف السنين من التراكم الثقافي والمقاومة، والإنجاز.
إن اللحظة التي نعيشها اليوم تتطلب مشروعًا وطنيًا أخلاقيًا وثقافيًا يعيد الاعتبار للإنسان اليمني ويصالحه مع ذاته وتاريخه وهويته الجامعة. فما أحوجنا اليوم إلى استعادة الثقة بالذات اليمنية بوصفها قادرة على تجاوز الانكسارات وصناعة المستقبل بإرادتها الحرة، بعيدًا عن التبعية والارتهان لمراكز النفوذ الخارجية أو الداخلية.
فالهوية اليمنية ليست مجرد لهجة أو انتماء جغرافي أو زي معين، بل منظومة من القيم: الكرامة، الصبر، العمل، الشرف، الشجاعة، والتمرّد على الظلم؛ إنها الشخصية التي قاومت الطغاة وأسقطت الإمبراطوريات، وبنت واحدة من أقدم الحضارات في التاريخ.
واليوم… يجب أن نعيد تشكيل هذه الذات اليمنية لا كمشروع دعائي فحسب، بل كمشروع وطني جامع؛ يعيد الاعتبار للمدرسة والجامعة، والإعلام والرموز الوطنية، ويرسخ في وعي الأجيال القادمة أن اليمني ليس تابعًا، ولا ضعيفًا، بل جدير بالاحترام كما هو جدير بالعيش في وطن آمن وكريم وعادل.
وأي مشروع يستهدف إعادة بناء الذات اليمنية ليس مجرد كلام نظري وفكري في قاعات الجامعات أو أحاديث النُخب في المجالس واللقاءات، بل ضرورة لأي مشروع سياسي أو تنموي قادم؛ فلا يمكن بناء دولة دون إنسان يؤمن بنفسه، ولا يمكن ترميم وطن دون كرامة مواطنيه. فالكرامة تبدأ من المعرفة والحرية والعدالة، وتنتهي بدولة تحترم الإنسان وتضعه في قلب مشروعها.
سابعًا: التاريخ لا يرحم في المنعطفات التاريخية
لا يحتمل اليمن مزيدًا من التشظِّي، كما لا يملك رفاهية الانتظار.. إن الاستمرار في تآكل الوحدة يعني المزيد من الانهيار والمزيد من الكوارث. فليكن هذا اليوم 22/5 مختلفًا؛ لحظة مراجعة لا تمجيد أعمى.. دعوة لإعادة التأسيس لا البكاء على الأطلال.
التاريخ سيُسجل من اختار أن يُنقذ، ومن تواطأ على الخراب.. واليمن رغم الجراح لا يزال ممكن الإنقاذ، فهناك شباب وفتيات مثل الجبال بالصلابة والشمم في حال تجرأ العقلاء وتقدّم الحكماء، وانتصر الوطن على الولاء الضيق..
إن مسؤولية إعادة البوصلة نحو الوحدة وبناء الدولة وتحقيق السلام تقع على عاتق الجميع.. فليكن هذا العيد نقطة تحول نعلن فيها بوضوح أننا لن نسمح لهذا الحلم الكبير بأن يتبدد في خضم الصراعات، وأننا سنعمل جاهدين لاستعادة اليمن الموحد، القوي، والمزدهر.
فالوحدة ليست ذكرى، بل مستقبل، ولا مستقبل لليمن بدون وحدة تُعاد صياغتها على أسس صلبة من العدالة والكرامة والحرية.