مقالات

الوصفة السحرية لصناعة القطعان

10/08/2025, 08:38:25

منذ زمن طويل، يحاول علماء النفس وفلاسفة السلوك فهم العلاقة بين الذاكرة والذكاء؛ فكلاهما من أعمدة الشخصية الإنسانية، لكن تفاعلهما قد ينتج صورًا متباينة جذريًا من البشر. وإذا أردنا تبسيط هذه العلاقة، يمكننا النظر إليها عبر ثلاثة أنماط رئيسية:

1. ذكاء حاد مع ذاكرة قوية: حيث يتكامل العقل التحليلي مع الحافظة الدقيقة، فينتج شخصًا يوازن بين تذكّر الوقائع وفهمها، وبين القدرة على ضبط ردوده حيالها.

2. ذكاء حاد مع ذاكرة ضعيفة: نموذج نادر، يجمع بين الفهم السريع وضعف التعلق بالأذى الماضي، فيبدو متسامحًا دون جهد.

3. ذكاء ضعيف مع ذاكرة قوية: النمط الأخطر، حيث تتحول قوة الحفظ إلى مخزن أحقاد بلا قدرة كافية على التحليل أو إعادة التأويل.

هذه التصنيفات ليست أحكامًا أخلاقية بقدر ما هي عدسات لقراءة السلوك الإنساني. ومن هنا يمكن فهم كيف يتحول الحفظ القوي، في غياب العقل المفلتر، إلى أداة نزاع دائم، وكيف تصير الذاكرة إما مصدر حكمة… أو مشروع خصومة لا تنتهي.

ذاكرة لا تنسى… قلب لا يغفر

لماذا يملك بعض الناس القدرة على تجاوز الجروح وكأنهم وُلدوا بلا ذاكرة؟ ولماذا يعيش آخرون أسرى طعنة واحدة، يُعيدون شحذها في صدورهم حتى تتحول إلى حقد دائم؟

الذكاء العقلي هو الفلتر الذي يحلل ويفهم ويعيد تأويل الأذى، أما الذكاء العاطفي فهو عين القلب التي تدير الغضب وتروّض الانفعال وتفتح باب التماس الأعذار. وأما الذاكرة فهي وعاء صامت: تستقبل، تخزّن، وتعيد البث متى شاءت أو متى أُثير الألم من مكمنه.

حين يجتمع الذكاء الحاد مع ذاكرة قوية، يولد إنسانٌ يحفظ الإساءة لكنه يروضها بالعقل؛ فلا ينتقم جزافًا ولا يحقد بلا مراجعة، بل يزن الكلفة إن صبر أو أخذ حقه. فإن غفر، فبدافع العقل لا الضعف.

أما الذكاء الحاد مع ذاكرة ضعيفة، فهو من أندر النماذج: نعمة تمشي على قدمين، لا تثقلها أحقاد قديمة، ولا يستنزفها حفظ جروح لا طائل منها. يبدو متسامحًا حدّ السذاجة أحيانًا، لكن حقيقته أعمق؛ إذ إن فهمه يغنيه عن الانشغال بالأذى، وضعف ذاكرته يمنحه خفة العفو بلا جهد.

ثم يأتي النمط الأخطر: صاحب الذاكرة القوية والذكاء المحدود. يمكن تخيله كخزان حديدي مفتوح، يلتقط كل إساءة وكل إشارة نقص، لكنه يفتقر إلى الأدوات العقلية والعاطفية (الذكاء العاطفي) التي تساعده على تهذيب وتحليل وفهم ما يلتقطه. يكتفي بتكديس الجروح كأرصدة قابلة للصرف في أول مواجهة، ويحتفظ بها كما يحتفظ الصياد بذخائره، ينتظر اللحظة التي يشهرها فيها كسلاح، حتى وإن كان الخلاف تافهًا أو اللحظة غير مناسبة.

هذا النمط لا يرى في الخلاف وجهة نظر، بل جريمة شخصية؛ فيتحول أي جدال إلى معركة، وأي نقد إلى طعنة، وأي مزاح غير موفق إلى إهانة يجب أن تُسجَّل في سجلاته الداخلية.

هو ليس شريرًا بالضرورة، لكنه مشروع نزاع مؤجَّل، لأن قدرته على الحفظ والاستذكار تفوق قدرته على الفهم والتحليل والاستنباط. ولأنه لا يملك مهارة إعادة تأويل الأحداث أو منح الأعذار، فإن كل ما يدخل ذاكرته يبقى كما هو: جرحًا طازجًا ولو مرّت عليه سنوات.

ومن هنا يبدأ الخيط الذي يصل هذه البنية النفسية بالقوى السلطوية؛ فكل سلطة تبحث عن أتباع أوفياء ستجد في هذا النمط ضالتها: أشخاص لا ينسون “الخيانة”، ولا يشكّون في القائد، ويحفظون الشعارات كآيات مقدسة، وينقلون الثأر من جيل إلى جيل، ومن قرية إلى قرية، ومن طائفة إلى أخرى.

من الميليشيات التي تعجن أتباعها بقصص ثأر أبدي، إلى القبائل التي تحفظ دمًا قديمًا وكأنه دين واجب السداد، إلى الأحزاب التي تجند من يلتزمون بالأدبيات دون أن يُسائِلوا النص — جميعها تفضّل من يحفظون بصرامة ولا يسألون كثيرًا.

في اليمن، لم يكن النظام السابق وحده من استثمر هذا النمط، بل شاركته جماعات وأحزاب وميليشيات متباينة: الحوثيون، غالبية القبائل، جماعات الإسلام السياسي، بل وحتى بعض الأحزاب الليبرالية واليسارية، وكذلك جماعات الوعظ المتشددة التي تختار حفظةً متواضعي الفهم، يسهل تلقينهم ويصعب تحريرهم من ذاكرتهم الصارمة.

لكن القصة أوسع من السياسة والدين: إنها الإنسان أصلًا. من لم يتحرر من أسره الداخلي، يظل مشروع خصومة متحركة، ينتقم من شقيقه أو جاره أو زميله ما دام في صدره أرشيف جراح بلا مرشد.

العفو، في هذه الحالة، ليس فضيلة فحسب، بل ضرورة للنجاة من النفس. لكنه لا يعني الغفلة ولا السذاجة؛ فمن يسامح بحقّ يتذكر الدرس حتى لا تتكرر المأساة. ومن لا يملك عقلًا يفرز أو ذاكرة تعرف متى تتخلى، يظل خادمًا لجراحه، يجرها معه من نزاع إلى نزاع، ومن خيبة إلى خيبة.

نحن، في معركتنا الأبدية مع ذاكرتنا، نحتاج عقلًا يفلتر، وقلبًا يتجاوز، ووعيًا لا يسمح أن تُغفر الأخطاء الجسيمة بلا اعتبار ولا حصانة من تكرارها. هكذا فقط، لا نحيا أسرى ولا نصير جلادين بلا ماضٍ ولا بصيرة.

فليكن ما نتذكره رحمة، وما ننساه نجاة، وما نغفره حكمة لا غفلة — هكذا نحيا أخفّ، ونفتح لذاكرتنا أن تكون صندوق معرفة، لا مخزن أحقاد.

مقالات

الزمن اليمني الجميل .. ما هو؟

سوى الذكريات.. ذكريات الزمن، ذلك القريب منه والبعيد، الجميل فيه وغير الجميل، لم يعد ثمة ما تهتم به غالبية اليمنيين في حاضرها، هروباً مؤقتاً من واقعها المحاصر باليأس والإحباط، أو التفكير في مستقبلها الغامض المجهول.

مقالات

المعنى آخر أسلحتك للبقاء

ليست المتاعب ولا الصدمات، لا الفشل ولا كل ضروب القسوة، هي ما قد تدفعك إلى الانتحار، مهما كان ما تواجهه من حياة موحشة؛ بمقدورك مجابهتها، حتى لو كنت وحيدًا جدًا وتعيش في صحراء خالية من البشر،

مقالات

الضابط المناطقي وسباق التخلف

تابعت قضية الشاب العدني مأمون الشيباني، وموقف الضابط المشحون بمزيج من المناطقية والجهل وسوء الأخلاق، وشعرت وأنا أستمع لطريقته في الحديث مع المواطن بأن هناك سباقًا وتنافسًا في المناطقية والبلطجة بين بعض إخوتنا في الوطن.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.