مقالات
اليمن: التنوّع في إطار واحد (3)
طوال مسار التاريخ، ظلت علاقات التفاعل والتبادل، بين المناطق اليمنية المختلفة، تشكّل مفتاح التطورات التي شهدها البلد.
لقد استثمر اليمنيون الموضع (ونقصد به الداخل) إلى أقصى ما يمكنهم ذلك، وكان أهم ما تحقق لهم هو زراعة المنتجات التجارية، مثل أشجار اللبان، والنباتات العطرية، التي كانت تُزرع في المناطق التابعة لحضرموت، واستغلوا موقعهم (ونقصد به السواحل المطلة على البحار)، المتوسط بين شرق العالم وغربه، كمنطقة عبور، لنقل التجارة، والبضائع بين المحيط الهندي، والبحر الأبيض المتوسط.
وإذا كان الموضع في اليمن (المكان من الداخل)، بما امتاز به من تنوع وتعدد في المناطق الجغرافية، كما يرى المستشرق الروسي بيتروفسكي، ولكل منها منتوجاتها الزراعية وإنتاجاتها الحرفية، فإن ذلك قد ولّد في اليمن حاجة اقتصادية دائمة إلى التبادل التجاري.
وقد أدى تكامل النشاط التجاري بين الممالك اليمنية القديمة إلى قيام وحدة اقتصادية أساسها التجارة، حيث كان للتجارة الدور الأهم، والفاعل لسيادة السلام.
لم يكن بوسع مملكة من الممالك اليمنية أن يتحقق لها أي ازدهار حضاري، وأن تبلغ مرحلة متقدّمة من الرُّقي، وتتطوّر أوضاعها الاقتصادية، والثقافية والتجارية بصورة منفردة، فالترابط الذي قام بين الممالك هو من سمح لها بتحقيق ذلك الازدهار، الذي تحدثت عنه المصادر التاريخية.
مع أواخر الألف الثاني للميلاد كان نشوء الممالك اليمنية، وقد "تم أساسا بفعل اتحاد أو شبه اتحاد سياسي - ديني ضم أكثر من تجمع (شعب) لكل شعب آلهته الخاصة به، وتمثل دولة سبأ نموذجا متميّزاً للاتحاد القبلي، ففي سبأ تشكلت نواة هذا الاتحاد منذ نهاية الألف الثاني قبل الميلاد تقريبا"، [د. أسمهان الجرو "دراسات في التاريخ الحضاري لليمن القديم"، ص240].
ومنذ عهد كرب إيل وتر، أول حاكم استطاع إخضاع البلد بأكمله لحكمه، في القرن السابع قبل الميلاد، كما تُحدثنا النقوش المكتشفة حتى اليوم، فإننا نجد صيغة الحكم فيها اتحادية، تقوم على التكامل، والتشارك في تبادل المنافع، وتقاسم الموارد، و"نستطيع القول وبكل ثقة أن نظام الحكم في اليمن القديم ذا الصبغة الاتحادية على أقل تقدير كان كلما اهتز بالصراعات الداخلية يعود في نهاية كل مطاف إلى الاستقرار بناءً على صيغة تحالفية ودية اتحادية تعقد بها مواثيق وعهود قائمة على التراضي المتبادل بين الشعوب"، [علي محمد الناشري "اليمن موحدا تحت راية سبأ"، صـ369، مجلة "آداب الحديدة"، العدد 1، 2010]، فكان كلما اختلت المعادلة بين الأطراف، فإن الصراعات كانت تسفر عن إعادة بناء تحالفات جديدة، تكفل مشاركة الجميع، وتضمن حقوقهم في المنافع والخيرات.
ومن هنا كانت حياة الاستقرار طويلة الأمد قديما، التي عرفتها بلاد السعيدة ثمرة لصيغة الحكم الاتحادي.
لقد جاء النظام الاتحادي، الذي اتخذته الممالك اليمنية القديمة، تعبيرا وتأكيدا، عن مدى إدراكها، وفهمها لطبيعة الجغرافيا اليمنية، التي تمتاز بالتنوع، والتعدد، الأمر الذي يُصعّب قيام حكم مركزي فاعل لأجزائها المختلفة من مركز واحد.
كما أن الاستقلالية النسبية، التي كانت تعيشها مكوّنات الدولة اليمنية، في ظل النظام الاتحادي "لم يخفف من الإحساس بالترابط العضوي بين مجتمعاتها؛ واستيعابها بأن النشاطات الاجتماعية والتجارية والصناعية التي تمارسها لا يكون فعالا، يحدث تغيير وتطوّر لأنماط معيشتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأيديولوجية، بدون هذا الترابط" [د. عبده عثمان غالب].
وإذا كانت سواقي المياه عملت على تماسك سكان الممالك اليمنية القديمة، حيث "يتبيّن أن السيطرة على السيل قد وحَّدت بين ممالك ما قبل الإسلام المتركزة على حافة صحراء رملة السبعتين"، [جوليان شار بونيه "الري في اليمن قبل الإسلام"، ص24، "حوليات يمنية"، ع 4، 2009، المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية، صنعاء]، فإن التجارة، وعملية تبادل البضائع بين مختلف المناطق اليمنية، منذ أقدم العصور، قد فرضت التكامل بين جميع المدن، وساهمت في خلق الاندماج الاجتماعي للسكان، ودفعت كل الأطراف للحفاظ على الأمن لصيانة المصالح المشتركة للجميع، "مما أتاح لتلك الممالك وحواضرها المتقاربة أن تتعايش طويلا، وإذا احتك بعضها بالبعض بين الفنية والفنية لاصطدام وقتي بين المصالح أدى إلى اختلال في الموازين بينها، فإنها لا تلبث أن تجد السبيل إلى الوفاق والسلام الذي لولاه ما ازدهرت تلك التجارة" [د. محمد عبدالقادر بافقيه "توحيد اليمن القديم" ص23، ترجمة د. علي محمد زيد، المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية، صنعاء 2007].
لم تعمل التجارة في اليمن على ترابط المناطق الداخلية، والمدن اليمنية المختلفة، وتكوين وحدة حضارية داخل البلد، بل امتد تأثيرها ليشمل كافة أقسام الجزيرة العربية، إذ نتج عن سعي اليمنيين لتسويق منتجاتهم في بلاد الشام، وأعالي الحجاز، وبلاد الرافدين في تكوين، وصياغة الوحدة الحضارية للعرب.
حيث شكّل خط البخور التجاري البري لمرور القوافل بين المناطق اليمنية منذ أقدم العصور دورا في اتحاد اليمن، والعمل على تعزيز الترابط بين أبناء المدن المختلفة، بهدف ضمان أمن واستقرار سير القوافل التجارية، بين الحواضر اليمنية على المستوى المحلي أولا، ومع دول الشرق القديم ثانيا"، [محمد صلاح "اليمن.. الداخل والساحل ثنائية الحياة" 1-3، مقالة على موقع بلقيس، بتاريخ 7 يوليو 2020].
ومن هنا نجد أن المصالح الاقتصادية، والتكامل بين المناطق، لعب الدور الرئيسي والحيوي في اتحاد اليمن واستقرارها.
لقد هيأت البيئة اليمنية السكان لتقبّل الفوارق، وطبّعتهم على تقبّل التنوع، والاختلاف، بينما "دفعهم نقل البضائع للخروج إلى أماكن كثيرة، وارتيادهم لمناطق عدَّة، وبلدان متباعدة أن يحتكوا مع حضارات وثقافات مختلفة ومغايرة لما ألفوه في وطنهم. وهذا الخروج المستمر والتنقل المتواصل مع بضائعهم، في أرجاء وبقاع عديدة من العالم"، [محمد صلاح "الروح اليمنية إطلالة من نافذة المكان" ص..، مجلة "مقاربات"، ص12، عدد 3، شتاء 2014]، ساهم بصورة فاعلة، في تعرفهم على حضارات، وثقافات الأمم المختلفة، الأمر الذي عزز من قبولهم للتنوّع، والتعدد، والنظر إليه باعتباره أصلا جوهريا في نظام الحياة، ودورتها.
لكن ثقافة القبول بالتنوّع تحوّلت من عامل للتكامل والبناء إلى عامل للتناقض والهدم، وذلك عندما بدأت السياسة في اليمن عاجزة عن إدارة التعدد، وبدأت الأطماع الإمبراطورية لكل من الفرس، والروم، تحوم حول اليمن، للاستيلاء على موقعه المتوسط بين الشرق والغرب، والمتحكم في طرق التجارة، البرية والبحرية، فإن كلا من روما وفارس انطلقتا لاستغلال التنوّع القائم في البلاد، بحيث عملتا على اختراق بعض المنتمين للديانتين اليهودية والمسيحية، وشراء ولاءاتهم، الأمر الذي قاد إلى الصراع بين اتباع الديانتين على السلطة في اليمن، وكانت خاتمته ضياع الدولة اليمنية، وانهيار حضارتها.