مقالات
اليمن.. الذاكرة الوطنية في وجه التشظي
منذ أقدم العصور، واليمن تعيش على إيقاع تحولات سياسية متكررة، تتوزع فيها السلطة وتتغير فيها الخريطة، غير أن ما لم يتغير هو شعور اليمنيين بانتمائهم العميق إلى وطن واحد، اسمه اليمن. وحتى في لحظات الانقسام الكبرى، حين تتعدد الأعلام والسلطات، تبقى “اليمنية” كحالة وجدانية وتاريخية تفيض من أعماق المجتمع، لتعلن أن التشظي في السلطة لا يعني التشظي في الهوية.
الهوية والسلطة: تاريخ من التشظي والوحدة
لقد مرت اليمن بمراحل من التمزق السياسي منذ العصور القديمة، فكانت الممالك تتناوب السيطرة على أجزاء من البلاد — من سبأ إلى حمير، ومن حضرموت إلى معين — غير أن الذاكرة الجمعية اليمنية ظلت تؤمن بوحدة الأصل والمصير. وحتى بعد الإسلام، عندما تشكلت كيانات وإمارات متباعدة، ظل التطلع إلى توحيد اليمن دافعا أساسيا لكل مشروع سياسي قوي، وكأن الجغرافيا والتاريخ يشدان المجتمع دوما نحو مركز واحد.
وفي كل مرحلة من مراحل الصراع، كانت القوى الصاعدة — سواء أكانت دينية أم قبلية أم سياسية — تسعى إلى إخضاع بقية المناطق وتوحيدها تحت حكمها. هذه النزعة التوحيدية لم تكن مجرد طموح سلطوي، بل كانت تعبيرا عن وعي جمعي متجذر في الذاكرة الوطنية، ورفضا للانقسام الذي يتنافى مع الصورة التي يحملها اليمني عن ذاته وعن وطنه.
فكل تمزق سياسي كان يحمل في داخله بذور التوحيد، وكل صراع على السلطة كان يكشف في عمقه عن حاجة اليمنيين إلى كيان جامع يعبّر عنهم. لقد أثبت التاريخ أن اليمن لا تستقر إلا عندما تكون موحدة، وأن الانقسام فيها لا يعيش طويلا، لأن الوعي الجمعي لليمنيين – رغم كل ما يطرأ من خلافات مذهبية أو مناطقية أو سياسية – ظل يرى في الوحدة ضمانة للوجود، وفي التجزئة نذيرا للضياع. وهكذا، تعاقبت الدول والممالك، وسقطت أنظمة ونشأت أخرى، لكن فكرة "اليمن الكبير" بقيت كامنة في ضمير اليمنيين، تتجدد كلما ظن الناس أنها خبت، لتعود فتؤكد أن الهوية اليمنية أقوى من كل الانقسامات العارضة.
الذاكرة الوطنية: مخزون القوة والاستمرار
الذاكرة الوطنية اليمنية ليست أرشيفا من الأحداث، بل هي روح الشعب وسجله الحي. إنها الذاكرة التي تحفظ أسماء الثوار، ومواسم الزراعة، وأيام المجد والانكسار من سبتمبر ١٩٦٢ إلى أكتوبر ١٩٦٣، ومن نوفمبر ١٩٦٧ إلى مايو ١٩٩٠، وتربط بين الإنسان والأرض في علاقة لا تنفصم. هذه الذاكرة هي التي جعلت اليمنيين، رغم الحروب والشتات، يشعرون أنهم أبناء بيت واحد.
وحين تسقط الدول وتتفكك الأنظمة، تبقى الذاكرة الوطنية بمثابة الجسر الذي يعيد وصل الأجيال، ويمنحها الإحساس بالاستمرارية. فاليمن ليست فقط حدودا أو سلطة، بل سردية عميقة من النضال والمقاومة والبقاء، تحفرها الذاكرة في الوجدان الجمعي منذ قرون. ووقائع التاريخ اليمني الحي النابض تؤكد هذه الحقائق فـ" تاريخ الحركة الوطنية الذي ترك تراثاً لا يمكن لأي نظام تجاهله ولا لأي مواطن، مهما كان توجهه الأيديولوجي، تجاوز عبره وحكمه. فقد ثبت للخاص وللعام أن أي توجه انفصالي يظهر في شمال الوطن أو جنوبه، ومهما كانت جاذبية القمصان التي يرتديها، لن يتمكن من الصمود والاستمرار. وتاريخ الحركة الوطنية مليء بالأمثلة والمواقف التي تبين مدى اندحار الاتجاهات الانفصالية ورفض الجماهير الشعبية لمبرراته ومخططاته ولا تزال لعنات هذه الجماهير تلاحق قادة الاتجاه الانفصالي الذين أرادوا في خمسينات هذا القرن تأكيد واقع التجزئة وبناء دويلات تسخر لخدمة أهدافهم ومصالحهم الأسرية الضيقة" [أحمد الصياد السلطة والمعارضة في اليمن المعاصر ص 498]
ولذلك لم تستطع أي قوة خارجية أو داخلية أن تمحو هذا الشعور أو تستبدله، لأن ذاكرة الأمة أقوى من سطوة القوة، وأبقى من عمر الأنظمة.
الهوية كطاقة تاريخية
الهوية ليست شعارا سياسيا أو انفعالا وجدانيا عابرا، بل هي طاقة تاريخية تمنح الأمم القدرة على النهوض بعد كل سقوط. وقد أثبت اليمنيون، عبر تاريخهم الطويل، أنهم حين يتكئون على هويتهم الجامعة، يستعيدون توازنهم بسرعة مدهشة. فالوحدة الوطنية لا تنبع من القوانين والدساتير وحدها، بل من الإحساس العميق بالمشترك التاريخي، ومن الذاكرة التي تصنع هذا المشترك وتحميه. ولهذا ظلت جماهير الشعب اليمني في كل مناطقه، رغم مرارة الاستبداد المحلي، وقسوة الاستعمار الأجنبي، وغياب المؤسسات التي تصون هوية البلد هي الحارس الأمين لبقاء اليمن حاضرا وموحدا في الوعي اليمني.
ومن هنا، فإن الأزمة اليمنية الراهنة — رغم قسوتها — ليست إلا حلقة في سلسلة طويلة من الصراعات التي عرفها هذا البلد، وقد تجاوزها دائما بفضل وعيه العميق بجذوره. ما دامت الذاكرة الوطنية حية، فإن فكرة اليمن ستظل تتجدد، كما تتجدد الشجرة كل ربيع حتى لو احترقت أغصانها في شتاء قاس.
من الذاكرة إلى المستقبل
إن مستقبل اليمن لا يُبنى على أنقاض الماضي، بل على وعي متجدد بمعناه. والذاكرة الوطنية ليست فقط حنينا إلى التاريخ، بل هي البوصلة التي تحدد اتجاه المستقبل. فالأمم التي تنسى لا تبني، والتي تفقد ذاكرتها تفقد قدرتها على النهوض.
ولذلك، فإن إعادة بناء اليمن الحديث لا تبدأ من الاتفاقات السياسية أو تسويات السلطة فحسب، بل من استعادة روح اليمن في وجدان أبنائه، واستحضار الذاكرة الجمعية التي جعلت هذا الشعب يصمد قرونا في وجه التجزئة والهيمنة.
فحين تحيا الذاكرة، تحيا الهوية، وحين تحيا الهوية، يصبح الوطن ممكنا دائما. وهذا ما عرفته اليمن طوال دورات التاريخ المختلفة.