مقالات
اليمن بين المصير المجهول والقرار الغائب
نرفض الحلول المؤقتة، لا نريد بنوكًا تُنقل ولا سلطات تُرحّل، بل نريد عودة الدولة إلى صنعاء، والخلاص من كابوس الحوثي الذي جثم على صدورنا طويلًا.
لا استقرار دون استعادة الدولة، ولا كرامة لشعب تُدار بلاده بقرارات مرهونة لإملاءات الخارج، بينما يتحوّل قادته إلى منفذين لمصالح لا تمتّ لليمن بصِلة.
حين أصدر المعبقي قرارا بإيقاف التعامل مع البنوك في صنعاء، كان ذلك خطوة ضرورية لسحب الشرعية الاقتصادية من تحت أقدام الحوثيين، لكن المفارقة أن القرار لم يُحسم داخليًا، بل أُجهض بضغط خارجي، حين أوقفه رشاد العليمي؛ تنفيذًا لتوجيهات سعودية.
ليست الكارثة فقط في التراجع عن القرار، بل في أن رأس السلطة أصبح مجرد ناقل أوامر، خاضعًا لإملاءات لا تعبّر عن الإرادة الوطنية.
كيف يمكن لسلطة تفشل في فرض قرار مالي أن تستعيد دولة؟ كيف يمكن لرئيس يعجز عن اتخاذ قرارات سيادية أن يكون ممثلًا حقيقيًا لمشروع وطني؟
وفي سياق أكثر عبثية، يأتي التصنيف الأمريكي للحوثي كجماعة إرهابية وكأنه لحظة كشف تاريخية، بينما الحقيقة أن هذه الجماعة لم تكن يومًا سوى "تنظيم إرهابي" منذ أن دخلت صنعاء، ونهبت، وقتلت، ودمّرت، وأعادت البلاد عقودًا إلى الوراء.
المأساة ليست في تأخر القرار الأمريكي، بل في أن البعض لا يعترف بحقيقة الحوثي إلا عندما تُقرّه واشنطن، وكأننا بحاجة إلى ختم خارجي لإضفاء الشرعية على معاناتنا.
كيف وصلنا إلى هذه النقطة التي يصبح فيها قرار أمريكي أكثر أهمية من الواقع الدموي الذي نعيشه منذ سنوات؟ وكيف يمكن أن يكون التصنيف الأمريكي حلًا بينما الفعل على الأرض يظل رهينة لحسابات إقليمية؟
في ظل هذا المشهد، تبدو الشرعية أكثر تفككًا من أي وقت مضى. فبينما كان يفترض أن تكون الجبهة المناوئة للحوثي موحّدة، تحوّلت إلى ساحة صراعات داخلية، حيث كل طرف يسعى إلى فرض مشروعه الخاص على حساب الدولة ذاتها.
طارق صالح يروّج لنفسه كرجل دولة، لكنه في الواقع يعيد إنتاج نموذج حكم عائلي لا يحمل تصورًا واضحًا لماهية الدولة التي يسعى إليها. عيدروس الزبيدي غارق في أوهام الانفصال، متجاهلًا التعقيدات السياسية والعسكرية التي تجعل مشروعه أقرب إلى السراب. رشاد العليمي، الذي يُفترض أن يكون رأس السلطة الشرعية، لا يبدو أكثر من وسيط بين الأطراف، أو موظف يُنفّذ أجندة إقليمية دون امتلاك أي هامش قرار حقيقي.
في ظل هذا التمزّق، يبدو نقل البنوك إلى عدن وكأنه إعادة ترسيم غير معلنة للواقع السياسي، حيث يتحوّل الأمر من محاولة لاستعادة السيطرة المالية إلى خطوة تكرّس الانقسام، وكأنّ صنعاء ستظل خاضعة للحوثي، بينما يتم إنشاء كيان مالي موازٍ في الجنوب. هذه ليست استعادة للدولة، بل إعادة إنتاج لحالة التشظِّي.
إذا كان الهدف هو إنهاء نفوذ الحوثي، فلماذا يتم التعامل معه كأمر واقع؟ وإذا كانت هناك إرادة حقيقية لاستعادة البلاد، فلماذا يتم اتخاذ قرارات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام؟
المأزق الحقيقي، الذي نواجهه، ليس فقط في وجود الحوثي، بل في غياب الإرادة الحقيقية لفرض مشروع الدولة.
لا يمكن إخراج اليمن من أزمته طالما استمرت هذه الحسابات الصغيرة التي تجعل كل طرف يبحث عن مساحة نفوذ خاصة به بدلًا من العمل على استعادة الوطن ككل.
ليس الحل في انتظار مفاوضات عبثية، ولا في بناء كيانات موازية، بل في فرض واقع سياسي وعسكري لا يترك مجالًا لاستمرار هذه المشاريع المتنافسة.
إذا لم يُفرض مشروع الدولة كحقيقة قائمة، فإن اليمن سيظل عالقًا في دوامة لا نهاية لها، حيث الجميع يتصارع على فتات السلطة، بينما الحوثي يرسّخ وجوده أكثر، والمواطن العادي يبقى الضحية الوحيدة لهذا العبث.
لن يكون هناك خلاص ما لم يُحسم هذا الصراع بقرار داخلي حقيقي، وما لم تتوقف القوى المتصارعة عن التعامل مع اليمن كمجموعة من المشاريع الشخصية، بدلاً من كونه وطنًا يستحق الاستعادة.
الحل لا يكمن في انتظار مفاوضات عبثية، ولا في بناء كيانات موازية، بل في استعادة مفهوم الدولة كحقيقة سياسية وعسكرية على الأرض.
لا يمكن الخروج من هذه الدوامة إلا بحسم الصراع بقرار داخلي مستقل، يعيد ترتيب الأولويات بعيدًا عن الحسابات الصغيرة.
اليمن بحاجة إلى مشروع وطني يتجاوز الأفراد، ويكسر قيود التبعيّة، ويعيد تشكيل السلطة على أسس جديدة.
بدون ذلك، ستظل البلاد عالقة في صراع لا نهاية له، حيث تتغيَّر الأسماء والوجوه، بينما يبقى المواطن العادي الضحيّة الوحيدة لهذا العبث المستمر.