مقالات
اليهودية نعومي (سيرة ذاتية 18)
كانت اليهودية نعومي مصابةً بوسواسِ النظافة، وكلَّ صباحٍ كانت تحضر حاملةً تنكةَ الماء، وبعد أن تسكب الماءَ في البرميل تكنسُ ما تراه يستحقُّ الكنس، وتنظِّف ما تراه يستحقُّ التنظيف.
وبعد أن تكنس وتنظِّف تعيد الكَنْس وتعيد التنظيف، وكنتُ أضيق بوساوسِها حول النظافة وأقول لها: «بس يا نعومي يكفي نظافة».
وكانت تقول لي إنني أسكن في بيتٍ من بيوت اليهود، وأنَّ مهمتَها أن تكنسه وتنظِّفه وتبقيه نظيفًا حتى لا يغضبَ منها جيرانُها اليهود.
وكان في ظنّي أنها تكنس وتنظف لكي تُرضيني، وعندما عرفتُ أنها تفعل ذلك ليرضى عنها اليهود تعجبتُ، وقلت لها: «ما دخلك ببيوت جيرانك اليهود وقد هاجروا!».
قالت إنَّ اليهود، وإن كانوا قد هاجروا وغادروا صنعاء، إلا أنَّ أرواحَهم ما زالت تسكن بيوتهم.
وقالت إنها كلَّ يومٍ وقت الغروب تُبصر اليهوديات وهنَّ يقفن أمام أبواب بيوتهن، وتراهن وهنَّ يومئن لها أن تقترب، وحين تقترب منهن يوصينها أن تعتني ببيوتهن، ويقلن لها: «أمانتك بيوتنا يا نعومي».
وكان كلامها عن اليهود الذين ما زالت أرواحُهم تسكن بيوتهم، وعن اليهوديات اللاتي تُبصرهن وقت الغروب وهنَّ واقفات أمام أبواب بيوتهن، يُثير في نفسي الرعب.
وكنتُ في المساء، عندما أدلف إلى البيت، وأصعد الدرج، تعتريني قشعريرة، ويساورني شعورٌ بأن أرواحَ اليهود منتشرةٌ في أركان وزوايا البيت.
وفي الليل كنتُ أسمع أصواتًا أقرب ما تكون إلى الصراخ، وحين كلمتُ نعومي عن تلك الأصوات التي أسمعها في الليل قالت لي إن ابنةَ صاحبِ البيت، وكانت صبيةً في الرابعة عشرة من عمرها، سقطت في البئر الموجودة في المطبخ، وأنَّ تلك الأصوات التي تصعد من قاع البئر تصدر عنها.
وكانت ثَمَّةَ بئرٌ مكشوفة داخل المطبخ، والسبب أنَّ اليهود كانوا؛ مثل غيرهم من سكان مدينة صنعاء، يحفرون آبارًا في بيوتهم ويستخرجون منها الماء كلما تعرَّضت صنعاء للحصار.
لكن وجود البئر في المطبخ كان بمثابة كابوس، وكنتُ إذا دخلتُ أدخل وأنا أتوجَّس خوفًا.
أما بعد أن كلمتني نعومي عن الصبية اليهودية، التي سقطت في البئر، امتقع وجهي من الرُّعب، ونشف ريقي، وليلتها لم أذق طعمَ النوم.
وفي اليوم التالي، اشتريتُ مصحفًا من مكتبة "الجيل الجديد"، وكنتُ في المساء عندما أعود إلى البيت أقرأ فيه بصوتٍ عالٍ كي أطردَ أرواحَ اليهوديات واليهود الذين احتلوا البيت وحوَّلوا ليلي إلى كابوسٍ طويل.
لكنَّ الخوف ظلَّ يلازمني، وكنتُ بمجرد أن أتوقفَ عن القراءة وأضعَ المصحف وأتهيأ للنوم حتى تعودَ تلك الأصوات، ويعودَ الصراخُ المريع، وأعودَ أنا لقراءة القرآن بصوتٍ أعلى.
وذات مساء، وقد عدتُ إلى البيت، داهمتني حُمَّى شديدة، وأنشبت مخالبَها في جسدي، وغبتُ عن الوعي، ورحتُ أهذي طوال الليل.
وفي الصباح، حين حضرت نعومي ووجدتني محمومًا، ذهبت وأحضرت لي من بيتها حبوبًا شربتُها، لكن الحمى ظلَّت في ارتفاع، ولأنها مصابةٌ بوسواس النظافة فقد عزت تلك الحمى إلى طعامٍ فاسدٍ وغير نظيف أكلتُه.
وراحت تسألني عن الأكل الذي أكلتُه في السوق، وأنا أنكر وأقول لها إني لم آكلْ في السوق، وكنتُ صادقًا؛ لأن العشرةَ الريالات التي حصلتُ عليها من اللصِّ الظريف في حبس قسم شرطة "باب البلقة" كانت قد طارت وتبخَّرت، ولم يبقَ في جيبي ما يجعلني أتجرأ على الأكل بالرغم من شعوري بالجوع.
وكان عندي يقينٌ أنَّ الخوف من البيت المسكون بأرواح اليهود وبروح الصبية اليهودية، التي تسكن في قاع البئر، هو سببُ الحمى.
وكانت الحمى، التي تستقوي بالظلام، قد عادت في المساء بقوة، وقذفت بيَ إلى تخوم الغيبوبة، وغبتُ عن الوعي، ورحتُ أهذي بصوتٍ سمعه الجيران.
وفي صباح اليوم التالي، وبعد أن حضرت نعومي وتحسَّست جبهتي وشعرت بارتفاع درجة حرارتي، نصحتني بالذهاب إلى المستشفى الجمهوري.
ولأني بطبيعتي أكره الذهاب إلى المستشفيات، فقد رفضتُ الذهاب، وبقيتُ فريسةً للحمى التي توحَّشت في الليلة الثالثة.
ثم إني لم أكن قد سمعتُ بالمستشفى الجمهوري، ولا علم لي أين موقعه، فضلًا عن أنَّ قراءاتي في تلك الكتب الوجودية ذات الروح العدمية كانت قد خلقت عندي شعورًا باللاجدوى من التشبث بوجودٍ يكتمل بالعدم، والتشبث بحياةٍ لا تكتمل إلا بالموت.
لكن اليهودية نعومي، وقد وجدتني في الصباح وأنا في أسوأ حالاتي، انتزعتني من فوق الفراش، وأخرجتني من البيت، وأمسكت بيدي وراحت تقتادني كما لو أني أعمى، وعند مرورنا من أمام بيتها راحت تلك العجوز الشيطانة تصرخ بكل صوتها: «اليهودية رقدت عند اليهودي!».
لكن نعومي مرَّت من جنبها ولم تلتفت إليها، وكنتُ أشعر، وهي تقودني إلى المستشفى الجمهوري، أنَّ الموت أقربُ من المستشفى، وأنه قد يصل إليَّ قبل وصولنا إليه.
لحظتَها كانت الحمى قد بلغت ذروةَ اشتعالها، وكنتُ أنا على وشك الانطفاء. وكانت نعومي ترفع من معنوياتي وتقول لي إننا اقتربنا وعلى وشك أن نصل.
وعند وصولنا، كان هناك طبيبٌ روسيٌّ رائع، وبعد أن فحصني أمر برقودي، ولم أدرِ لماذا، ولا ما هو المرض الذي جعله يقرر رقودي، لكنِّي فرحتُ عندما عرفت أنهم في المستشفى الجمهوري يُقدِّمون للمرضى أكلًا بالمجان.