مقالات
أن تكون متحضرا يعني أن تستمر
لا يوجد إنسان متخلف، لأن جوهر الإنسان ذاته يحمل نواة التحضر، وما من كائن بشري إلا ويحمل في أعماقه قدرة على الفعل والإبداع والتشكيل. جميع من يسكنون الكوكب، مهما اختلفت مظاهرهم وطرائق عيشهم، يشتركون في أصل واحد هو الرغبة في الاستمرار، وهذه الرغبة هي الشرارة الأولى للحضارة. حتى الذين يقتاتون من الشجر ويمشون حفاة فوق التراب يمتلكون بصمتهم الحضارية، فكل فعل يضمن البقاء هو ممارسة للتحضر.
الإنسان الإفريقي القديم الذي لم يكن يعرف الأقمشة اللامعة، كان متحضرًا لأنه امتلك مهارة الحياة في بيئة قاسية، وتحكم في أدواته المحدودة بإبداع فطري عميق. الحضارات ليست كيانًا واحدًا جامدًا، وإنما درجات تتفاوت بحسب ما ينتجه الإنسان من وسائل وطرائق للبقاء. معيار التحضر هو الفعل المنتج، لا الشكل الظاهري للفعل. أن تصنع الخبز بيديك هو تحضر، أن تكتشف الماء في أقصى العطش هو تحضر، أن تخلق لنفسك وسيلة للاستمرار هو ذروة التحضر، فالحضارة هي قدرة الإنسان على إعادة تشكيل وجوده كلما واجه انطفاءً محتملاً.
في معناها الجوهري، ثمرة الجهد الإنساني المتواصل لتحسين شروط الحياة وتطوير أدواتها. لا تنشأ من العدم، ولا تُعطى كهدية من السماء، إنها تتكوّن من خلال تراكم التجربة عبر التاريخ. هي حصيلة صراع الإنسان مع الضرورة، ومحاولته الدؤوبة لتليين صلابة الوجود. جوهرها مزدوج؛ مادي في ظاهره، روحي في أعماقه.
كل جهد يسعى به الإنسان إلى تخفيف قسوة العيش أو توسيع مدارك وعيه هو في ذاته فعل حضاري، لأن الحضارة مسار ينساب عبر الزمن، وليست ناتجًا آنيًا. فالزمن شرطها الأول؛ فكما لا تثمر الشجرة في يوم واحد، لا تثمر الحضارة دون أن تعبر أعمارًا من التجربة. ثمارها تنضج ببطء، وتحتاج إلى تاريخ يحتضنها. ومن هنا يتجلى المعنى، الحضارة هي ثمرة الزمن حين يختلط بعرق الإنسان.
إن كل اختراع أو اكتشاف بشري كان في بداياته محاولة غامضة، يتيمة، لا يدرك أحد قيمتها. كثير من الاكتشافات تكررت مرات عديدة عبر التاريخ قبل أن تعي البشرية فائدتها. هذه الدورات من النسيان والاكتشاف تشكل نسيج الحضارة ذاته، إذ لا يتحول الفعل الفردي إلى أثر حضاري إلا عندما يدخل في نسق التراكم. الوعي البشري لا ينضج دفعة واحدة؛ لكنه يتفتح عبر الاستعمال. التجربة تصقل الذهن، وتنمي قدرته على الضبط والإحكام، كما أن الذهن في بداياته طفل يتعلم المشي في متاهة من المحاولات.
تتقوى عضلات الفكر بالمران المستمر، وتتعدد أدواته مع الوقت. الحضارة هي ثمرة هذا التكرار الهادئ للفعل الإنساني، فعل يعيد صياغة نفسه بلا توقف، حتى يتحول إلى نمط من الوعي المستقر.
الزمن والتاريخ عنصران في تكوينها الداخلي. كل حضارة هي تاريخ متجسد، والتاريخ في جوهره هو حركة الحضارة وهي تتعلم كيف تكون أكثر قدرة على الفعل. الأدوات التي يستخدمها الإنسان اليوم هي نتيجة آلاف التجارب التي صاغت وعيه وأعادت تركيب إدراكه للواقع. في كل لحظة يطور أداة، كان الإنسان يطور ذاته في الوقت ذاته. فالفعل المادي الذي يصنع الأداة هو ذاته الفعل الذهني الذي يصنع الإنسان. من هنا يتجلى عمق العلاقة بين الحضارة والتاريخ، لا وجود لواحدة دون الأخرى، فهما وجهان لحركة واحدة في الزمن.
يقال، وفق رؤية المفكرين في فلسفة التاريخ، إن كل اكتشاف من الاكتشافات الأولى التي أرست الخطوة الأولى في مسيرة الإنسان الحضارية، لم يظهر دفعة واحدة ثم يستقر، بل عُرف ثم توارى، ثم عاد إلى الظهور حين اكتشف الإنسان قيمته العملية، فتمسك به، وراح يطوره ويكثر من استعماله، حتى أصبح جزءًا من يومه ومعاشه. هكذا تولد القيمة التراكمية للحضارة: تلك القدرة على تحويل التجربة العابرة إلى قاعدة راسخة، وعلى جعل الفكرة المجردة عادة تمارس. فالحضارة ثمرة لا تُقطف من لحظة، إنها تنضج في بطء التاريخ، كما تنضج ثمار الزروع في عمق الأرض.
الرابط بين التاريخ والحضارة رابط حي، تتدفق فيه التجربة عبر الزمن، كما يتدفق النهر في مجراه فيشكل ضفافه على مهل. فكل أداة بين أيدينا اليوم، مهما بلغت من الدقة، هي ثمرة عصور من المحاولة والتكرار. احتاج الإنسان إلى أزمنة ممتدة ليحول الحجر المشذب إلى فولاذ مصقول، والنار الملتقطة صدفة إلى طاقة مسيطر عليها. التاريخ، في جوهره، ذاكرة الوعي الإنساني وهو يتعلم تنظيم فوضى العالم.
الذهن البشري في بداياته كان غائمًا، يعمل في ضباب التجربة الأولى، حتى بدأ يشتد مع المران. فالعقل، مثل العضلة، يكتسب قوته بالاستعمال. والطفل حين يحاول الإمساك بالأشياء بكفه الصغيرة، لا يتقن حركته أول الأمر، ثم تكتسب يده إحكامها مع الزمن، وهكذا يتدرج الذهن في قدرته على الضبط، إلى أن يبلغ مهارته في الفهم والإبداع. الحضارة تنمو على هذا النسق: من المحاولة إلى الإتقان، ومن الغريزة إلى الصنعة. والزمن هو اليد الخفية التي تنضج التجربة، وتحول الخطأ إلى معرفة، والفوضى إلى نظام.
الحضارة عملية بطيئة في جوهرها، تسري في الجسد الإنساني كما يسري الدم في العروق، وتعيد تشكيل الإنسان في الوقت الذي يعيد فيه الإنسان تشكيلها. هي فعل متواصل من الصقل والتجاوز، لا يقاس بكمية الاكتشافات، بل بقدرة الوعي على تحويل المعرفة إلى سلوك يومي، وإلى ممارسة طبيعية للحياة.
كل جماعة بشرية تحمل في أعماقها شكلًا من أشكال الحضارة، يتجلى في طريقتها في فهم العالم وفي ترتيب حياتها. الفروق بين الشعوب درجات في الوعي والتجربة، لا قطيعة بين وجود حضاري وآخر. فحيثما وجد الإنسان، وجدت فكرة التحسين، والرغبة في البقاء، والسعي نحو معنى الحياة، وهذه هي البذور التي تثمر الحضارة.
فالإنسان الذي يعيش في الغابة ويصطاد بقوس بدائي، أو الذي يبني مأواه من أغصان الشجر، يمارس حضارته وفق طاقته ومعرفته وبيئته. أفعاله قد تبدو غريزية، لكنها تنطوي على نظام داخلي من التفكير، واستجابة دقيقة لضرورات الوجود. هذا المستوى من الوعي هو بداية التحضر. فالفارق بين جماعة وأخرى ليس في وجود الحضارة من عدمها، وإنما في المدى الذي بلغته تلك الجماعة في استخدام أدواتها العقلية. الحضارة مقياس نسبي، والهمجية المطلقة وهم فكري. لا توجد جماعة بشرية بلا وعي، وإنما توجد مستويات متفاوتة من التمكن والابتكار.
الإنسان هو جوهر الحضارة وصانعها، لا بذكائه وحده، وإنما بتكامله العضوي والنفسي. الجسد والعقل يعملان في وحدة متناسقة تنتج الفعل الحضاري. اليد تفكر والعقل يعمل، فالحضارة لا تُخلق في الذهن فقط، إنما تتجسد في العمل، في الصنعة، في التجريب. الإنسان لا يبني حضارته بقدر ما يعيد بناء نفسه من خلالها، لأنه حين يبتكر أداة، يبتكر معها طريقة جديدة للتفكير، وحين يغير بيئته، يغير معها شكل وعيه. الحضارة إذًا ليست مجرد نتاج بشري، إنها الإنسان وقد تجاوز ذاته نحو معنى أرحب للوجود.