مقالات
بلاد تلبسنا مثل جلد نهرب منها إليها!! (2-2)
حين ضيَّق الإنجليز الخناق على الصحفيين والسياسيين والمعارضين القبليين، نزح العديد منهم إلى عاصمة الإمام أحمد (مدينة تعز)، ومنهم الأستاذ عبدالله عبدالرزاق باذيب الذي أبعدته سلطة الاحتلال عن عدن، بعد سنوات قليلة من واقعة المحاكمة الشهيرة، التي اتهم فيها بنشر الكراهية بعد نشره موضوع "المسيح الجديد الذي يتكلم الإنجليزية"، وفيها أصدر صحيفة "الطليعة" في العام 1959م، في العام نفسه الذي وصل فيه إلى تعز العديد من الطلاب المبعدين من مصر (الجمهورية العربية المتحدة)، بسبب نشاطهم السياسي، ومن ضمنهم مجموعة من الطلاب الجنوبيين، الذين أبعدوا بحجة انتماءاتهم السياسية لليسار، منهم: أبوبكر السقاف وعمر الجاوي ومحمد جعفر زين وخالد فضل منصور وعبدالله حسن العالم إلى جانب محمد أحمد عبدالولي وآخرون.
قبل أن يعاد ابتعاثهم مرة أخرى للدراسة في دول اشتراكية، مثل الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا على حساب حكومة الإمام.
في تناولي لسيرة الراحل عمر الجاوي، أشرت إلى أنه وأثناء وجوده في مدينة تعز، في العام 1959م، عمل محرراً في صحيفة "الطليعة"، التي أصدرها باذيب، قبل أن يسافر إلى موسكو ويتخصص في الصحافة، ويعود منها إلى تعز في العام 1963م، لإسناد ثورة سبتمبر من خلال عمله في المركز الحربي، مترجماً للخبراء السوفييت، وفي فترة حصار صنعاء أواخر العام 1967م كان الجاوي أحد زعماء المقاومة الشعبية لفك الحصار وهو صاحب شعار "الجمهورية او الموت".
وفي الفترة ذاتها، أو قبلها بقليل، استقرت في تعز العديد من الأسر اليافعية المعروفة، بعد أن تعارضت مواقفها مع مواقف الاحتلال الإنجليزي، منها أفراد من أسرة ال هرهرة وأفراد من أسرة المفلحي، الذين صاروا جزءا مهماً من نسيج مجتمع المدينة الصاعدة، التي صارت هي الأخرى قِبلة لليمنيين طيلة عقدي الستينات والسبعينات، قبل أن تغرقها موجات الردة الظلامية في بحور العتمة اللزجة.
كان قد سبقهم إلى تعز مبعداً من عدن محمد عبده نعمان الحكيمي، الأمين العام للجبهة الوطنية المتحدة - تأسست بعدن في منتصف الخمسينات، من مجموعة من النقابات العمالية لمناهضة السياسات التمييزية لسلطات الاحتلال- وقد قام في تلك الفترة بالتواصل مع معظمهم للتنسيق في تشكيل جبهة للكفاح المسلح ضد الاستعمار، منطلقاً من مبدأ التحالف مع كل شخص يرغب بمقارعة الاستعمار مهما كان جذره الطبقي وانتماؤه السياسي، وهو الأمر الذي كان يرفضه باذيب بشدة.
وقبل الجميع، وتحديداً في العام 1952م، هرب إلى تعز سلطان لحج فضل عبد الكريم مع مجموعة من أنصاره ومقربيه بعد حادثة التصفيات المشهورة في الحوطة.
في فترة الكفاح المسلح بقي الفدائيون وقادة العمل السياسي في الجبهة القومية وجبهة التحرير يتنقلون بين تعز وعدن، وهذه الأخيرة كان لها مكتب مهم في مدينة تعز تشرف عليه الأجهزة المصرية.. والجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل عقدت مؤتمرها الثاني في مدينة جبلة في 1966م، وقيادات سياسية محسوبة على الجبهتين تولت مواقع وزارية في حكومات الجمهورية العربية اليمنية قبل الاستقلال وما بعدها، كما سنشير لاحقاً.
ودمج الجبهتين القسري، الذي تم في 13 يناير 1966م، كان في مدينة تعز برعاية مصرية، وهو الدمج الذي رفضته الكثير من قيادات الجبهة القومية، وأفضى إلى دوامة من النزاع المسلح في مدينة عدن لاحقاً بين أنصار الجبهتين.
بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967، وتالياً أحداث أغسطس 1968، نزح المئات من المنشغلين بالشأن العام والعسكريين المستبعدين من وظائفهم والملاحقين من صنعاء وتعز والحديدة إلى عدن، وشغل بعضهم مواقع سياسية في تكوينات السلطة الجديدة، وبالمقابل بدأت موجات نزوح جديدة للقيادات السياسية والعسكرية إلى مدن الشمال بعد ما عُرف بالخطوة التصحيحية في 22 يونيو 1969م.
في فترة النزاع بين الشطرين طيلة حقبة السبعينات - أفضت إلى حربين طاحنتين في 1972و1979 بين الأخوة- نشطت وبقسوة الأجهزة الأمنية في الشطرين تجاه معارضي سلطتهما، فكان فرار التقدميين جنوباً والرجعيين شمالاً على حد وصف الساخر الكبير فضل النقيب في روايته عن عودة الشاعر الجرادة إلى عدن بدون رفقيه محمود الحاج وفضل النقيب، بعد صعودهم إلى صنعاء ضمن وفد أدبي، وحين سئل الجرادة عن عودته وحيداً إلى عدن قال قولته المشهورة "التقدميون تقدموا والرجعيون رجعوا"، على اعتبار أنه شاعر تقليدي ويوصف بالرجعي، وإن مرافقيه كانا من الأدباء الشبان التقدميين حينها.
لعب اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، الذي تأسس موحداً في أكتوبر 1970م في عدن، دوراً مهما في توفير الحماية الكبيرة لكثير من الأدباء الذين تعرضوا لمضايقات، وكان يسهِّل انتقالاتهم واستقرارهم في الوجهة التي يرغبون الإقامة فيها في أي من مدن الشطرين, ولم أزل اتذكر الشاعرين الجليلين عبدالله هادي سبيت والأمير عبد الحميد عبد الكريم في فترة من فترات استقرارهما الطويل في مدينة تعز، حيث كان الأول جاراً لعمي، والثاني كنت ألتقيه في معمل للتصوير في عقبة شارع جمال، ولم تزل ببالي الصورة المرتسمة للراحل حسين عثمان عشال، قائد الجيش الجنوبي بعد الاستقلال الذي استقر في الحارة ذاتها التي كنت أسكن فيها، وتزاملت مع بعض أبنائه ومنهم البرلماني علي عشال.
بعد أحداث الحُجرية في مايو من العام 1978م، والمحاولة الانقلابية الناصرية في أكتوبر من العام ذاته، هرب إلى عدن المئات من العسكريين والمدنيين المناهضين لحكم الغشمي وصالح، وصار أكثرهم ضمن التشكيلات العسكرية للجبهة الوطنية الديمقراطية التي تشكّلت من العسكريين الذين تعرضوا للفصل والمطاردة طيلة فترة السبعينات.
تحصل الكثير من المغادرين جنوباً، وخصوصاً الشبان منهم، على منح دراسية في المعاهد والأكاديميات والجامعات في دول المعسكر الاشتراكي على حساب جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وبالمقابل تحصل المغادرون شمالاً على هويات وجوازات سفر تخص مواطني الجمهورية العربية اليمنية، مكنَّتهم من السفر إلى دول الخليج والسعودية، حين كانت امتيازات مثل هذه الهوية كبيرة.
طيلة فترة التشطير وقبلها، تولى العديد من رجال السياسة في الشطرين مواقع سيادية ووزارية متقدمة في كلا الحكومتين، باعتبارهم يمنيين، وإن كانت البواعث والمشغلات السياسية في فترة الصراع قد لعبت دوراً حيوياً في مثل هذه التعيينات، فجنوبا وصل عبدالفتاح إسماعيل إلى موقع رئيس الدولة، وأمسك محمد سعيد عبدالله حاجب (محسن الشرجبي) بجهاز أمن الدولة، وتولى عبدالله الخامري وزارة الإعلام، ومحمود عبدالله عشيش وزارة المالية، وعبد العزيز عبدالولي وزارة الصناعة، والدكتور سعيد شرف وزارة الصحة، وعبد العزيز الدالي وزارة الخارجية، وعبد الباري قاسم وزارة للتربية والتعليم، ومصطفى عبد الخالق وزارة العدل، وراشد محمد ثابت وزارة الثقافة، وعبد الغني عبد القادر وزارة الصناعة، ومحمود النجاشي وزارة السياحة، وعبد الواسع سلام وزارة العدل، وأحمد مقبل الشلالي وزارة الزراعة، وعثمان عبد الجبار راشد وزارة القوى العاملة، عبدالله محمد عثمان وزارة الصناعة وغيرهم.
وشمالاً تولى قحطان محمد الشعبي موقع وزير شؤون الجنوب اليمني المحتل في واحدة من حكومات سبتمبر الباكرة، وحسين علي الحبيشي رئيساً للمكتب القانوني، وعبدالله عبد المجيد الأصنج وزيراً للخارجية، ومحمد سالم باسندوة وزيراً للشؤون الاجتماعية والإعلام، وسالم محمد السقاف نائب رئيس مكتب الرئاسة، والدكتور يحيى الشعيبي نائب رئيس الجامعة، وغيرهم من الكوادر الذين تولوا مواقع إدارية مهمة في كثير من مفاصل الدولة المدنية والأمنية.
أكبر موجة نزوح إلى الشمال كانت مطلع العام 1986م بعد أحداث يناير المشؤومة، إذ استقبلت صنعاء والمدن الأخرى ألوف العسكريين والمدنيين المحسوبين على الطرف المنهزم في الأحداث (تكتل الرئيس علي ناصر محمد)، وقد لعبت النتائج المزلزلة لهذه الأحداث دوراً مهماً في التسريع بإعلان دولة الوحدة في مايو 1990م، التي بدورها تعرضت بعد أربعة أعوام من قيامها لأكبر انتكاسة بسبب حرب صيف 1994م واجتياح الجنوب، وتجريف هويته ومكتسباته الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بواسطة التحالف العسكري الديني القبلي في صنعاء، فتحولت مع مرور الوقت إلى مظلومية وطنية، تعاملت معها سلطة صالح بخفة وتعالي، لتقود في نهاية الأمر إلى إفراز تيار قوي مناهض للوحدة، تغذَّي في بعض جوانبه على خطاب الكراهية الذي أنتجته الأجهزة لتأجيج صراع "جهوي/ مناطقي" لم يخل من عنصرية فجة.
في الوقت الذي يتناقص فيه الجنوبيون في صنعاء، حسب شهادة وزير جنوبي سابق في حكومية الحوثيين، بسبب ظرف الحرب وتبدلات السياسة صارت عدن وبقية المحافظات الجنوبية مكتظة بعشرات الآلاف من المواطنين اليمنيين المحسوبين على محافظات الشمال، الذين نزحوا إليها بسبب التعسفات الكبيرة والتضييق الذي تمارسه سلطة الحوثيين عليهم، إلى جانب الظروف المعيشية الصعبة الناتجة عن احتكار الأعمال وقطع المرتبات واستمرار الحرب التي لعبت هي الأخرى أدواراً فاعلة في هذا النزوح.
إنها اليمن الكبير التي تلبسنا مثل جلد، ومهما تكالبت عليها الظروف، وتسلّط عيها الصغار والمأجورون، سنكتشف أنها حضن أم دافئ حنون، مهما هربنا منه نعود إليه طواعية لنستكين.