مقالات

بلقيس.. حين أنجبت الثورة ضميرها

10/05/2025, 19:47:39

عشرة أعوام مضت على تأسيس قناة بلقيس، كأنها عبور كوكبي في مدار الحقيقة، عشر سنوات لم تكن مجرد زمنٍ يُقاس بالساعة والتقويم، وانما كانت تشكُّلًا وجوديًا لقناةٍ لم تكتفِ أن تكون مرآة للواقع، بل أرادت أن تُعيد صياغته، أن تُحدث فيه فرقًا، أن تكون فاعلًا لا ناقلًا، شاهدة لا شاهدًا فقط. قناة بلقيس، بهذا المعنى، لم تكن مشروعًا إعلاميًا بالمعنى البسيط، وإنما كانت مشروعًا فلسفيًا نابعًا من جرح جماعي، من ذاكرة شعب، من صرخة في ليلٍ طويل، من نداءٍ يطلب ضوءًا في متاهة العتمة. لقد صنعت بلقيس تميزًا لا يُقاس بالمقاييس المعتادة، بل بتلك الميتافيزيقا التي لا تُرى، ولا تُقاس، لكنها تُحسّ وتُلهب الأرواح.

إنها الفرق الجوهري بين الإعلام حين يُولد من رحم الرسالة، والإعلام حين يُصنع في معامل السوق. بين من يكتبون بمداد الألم والموقف، وبين من يسطرون الكلمات بلون المصلحة وحبر المال. بين من يصنعون الحقيقة كشهادة، كصلاة، كدمٍ يسري في وجدان الأمة، وبين من يتاجرون بها في المزادات، يبيعونها لمن يدفع أكثر، ويشوهون وجهها حتى لا تعود تُعرف. قناة بلقيس كانت دومًا في الجهة النبيلة من هذا الصراع: لم تنحنِ، لم تتورط في حفلات التزييف، بل وقفت، وظلت تقف، كجدار صدٍ أخلاقي في وجه الانهيار.

بلقيس ليست قناة فقط؛ بل ذاكرة حية تمشي بين الناس، صوت المقموعين، ورئة الذين لا يُسمع لهم صوت. هي ذلك الأثر الذي يتركه النضال حين يتجلى في شكل فكرة، والفكرة حين تترسخ وتتحول إلى مشروع، والمشروع حين يصبح واقعًا متجذرًا في الضمير الجمعي. إنها امتداد زمني لفكرة أصيلة، لفلسفة مقاومة، لحق إنساني في أن يُقال ما يجب أن يُقال، حين يخاف الآخرون من الكلام. والفكرة الحقيقية لا تموت، لأنها ليست ابنة اللحظة، بل حفيدة التاريخ، ورفيقة المستقبل.

وأنا حين أتحدث عن بلقيس، لا أتحدث من باب المديح، ولا من رغبة في التزيين البلاغي، وإنما من موقع الكشف، من وعيي الخاص كإنسان أحبّ هذا المجال لأنه رأى فيه نورًا وسط الظلام، ولأنه رأى في بلقيس الدليل، والنبراس، والبداية. لقد كانت بلقيس هي الدافع الأول لاختياري هذا الطريق، لم أذهب إلى الإعلام لأنني أردت شهرة، أو لأنني أحب الكاميرات، بل لأنني رأيت في هذه القناة تلك القدرة النادرة على تحويل الصوت الفردي إلى خطاب عام، وتحويل الحكاية الشخصية إلى ذاكرة جمعية. لأن الكلمة في هذه القناة تصبح أكثر صدقًا، وأكثر شرفًا.

بلقيس ثمرة حلمٍ ثوري، خرجنا نحمله في ساحة التغيير، لا لأننا كنا نطلب المستحيل، بل لأننا أردنا المستحق. صحيح أن كثيرًا من أحلامنا قد تكسّرت على صخور الواقع، وصحيح أن الثورة لم تحقق كل وعودها، لكننا عدنا منها بشيء ثمين: هذه القناة_ قناة بلقيس_. عدنا وبلقيس معنا، تنقل صوتنا حين بُحّت أصواتنا، وتُعيد تشكيل الحلم حين حاولوا اغتياله. لقد كانت وما زالت، المأوى الأخير للكلمة الحرة.

ما قدمته قناة بلقيس خلال عقدٍ من الزمن، لا يُمكن مقارنته بما قدمته أي وسيلة إعلامية أخرى. لم تُجامل، لم تهادن، لم ترهن نفسها لأجندة، لم تبع صوتها لمن يدفع أكثر، بل وقفت على الحد الفاصل بين الحقيقة والخذلان، وكانت تنحاز دائمًا إلى الجهة التي فيها الإنسان. فلم تكن بلقيس مشروعًا ترفيهيًا، بل كانت مشروعًا إنسانيًا، ضميرًا حيًا لا ينام.

بلقيس فكرة، والفكرة لا تموت. بل تزداد تجذرًا كلما حاولوا اقتلاعها، وتزداد وضوحًا كلما اشتدت العتمة، وتكبر، كما تكبر الأشجار الراسخة، في باطن الأرض أولًا، قبل أن تعانق السماء. بلقيس هي هذا الجذر الذي يربطنا بذواتنا، بتاريخنا، بحلمنا الذي لم يمت، ولن يموت، لأنها وُلدت من رحم الصدق، ولا شيء يولد من الصدق إلا ويبقى.

مقالات

أزمة الثقة في اليمن: من انقسام الداخل إلى استغلال الخارج (3)

على الرغم من أن ثورة فبراير فتحت الباب أمام إمكانية إعادة تأسيس الدولة على أسس حديثة، فإن الواقع أثبت أن الدولة التي كانت قائمة لم تكن سوى شبكة مصالح ومراكز نفوذ مترابطة حول شخص الحاكم، أكثر منها بنية مؤسسية قادرة على الصمود أو التجدد.

مقالات

الجنجويد والإسلاميون كارثة السودان

يتعرَّض السودان - كشعب وكيان - للدمار. قطبا الكارثة الإسلاميون: جماعة الجبهة القومية الإسلامية: جناح الترابي، والبشير: المؤتمر الشعبي، والمؤتمر الوطني. والطرف الثاني: «الجنجويد»؛ التدخل السريع حالياً.

مقالات

صالح والصورة التي باعت الوهم لليمنيين في سبتمبر (2/1)

لثلاثة عقود، ظلّ المشهد نفسه يتكرر: منصة عالية في ميدان السبعين، وقائد يقف وسط الحاضرين بقامة قصيرة، لكنه يبدو وسط ضيوفه من الرؤساء والملوك عملاقاً في مناخ الاستعراضات العسكرية المهيبة. خطوات منتظمة، أنغام موسيقية صاخبة، وأزياء عسكرية ملوّنة تخطف الأنظار وتزين الميدان.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.