مقالات
"بلقيس" لا تطفئ الشموع
ربّما زهرة العمر قضيتها في قناة "بلقيس"، كنتُ قادماً من عملٍ في وسيلة إعلام رسمية ممتلئة بالمحاذير إلى وسيلة شعارها "صوت كل اليمنيين"، كان ذلك بمثابة انتقال بين عالَمين.
تجمع هناك نخبة من الصحفيين المتحمّسين للعمل، وكان عليهم مواجهة مجموعة من القتلة الجُدد المتحمّسين للسلطة، تشبه تلك المواجهة مواجهة رجل يحمل بندقية مع من يحمل قرطاسا وقلما عائداً من مدينة قصدها للتعلّم، وقد كانت "بلقيس" ذلك القرطاس.
يسقط الضحية فيعلو في شاشتها، يجد فيها مساحة تمنح أقاربه نوعاً من الإحساس بالوجود والتضامن.
تضامنت القناة الجديدة مع الضحايا حتى أصبحت جزءاً منهم، قُتل من مراسليها من كانت تنتظر تقاريرهم عصر كل يوم.
اختفى صوت أديب الجناني وهو متحدثاً على الهواء، وقتها قالت نضال -المذيعة المباشرة على الهواء-: "أديب هل تسمعني؟".
صنع ذلك فارقاً في حياتها المهنية، كان على أحد القلبين أن يتوقّف.
أن تفقد زميلك على الهواء فتلك مصيبة لا يشعر بها غيرك، تدريجيا تدفع ثمن ذلك من خلال أيامك واهتماماتك، وتلاشي الغيوم فوقك.
وضعت الأغلال على أبواب "بلقيس"، لكنها لم تكن تقبل ذلك، وكلّما أُقفل مكتبٌ لها على الأرض، فُتحت لها نوافذ عبر الأثير، كان أول باب أُوصد إغلاق مقرها قُرب شارع الزبيري، وكان لذلك معنى وخيم، تولّى ذلك أحد جيرانها وهو الحباري، وقد دار اسمه في شريطها الإخباري طيلة أعوام، ولم يزده ذلك إلا نفورا.
أرسلت الأخبار إليها، وسار النهر نحوها.
حُكم على الناس؛ لأنهم تحدّثوا لبلقيس، أو ظهرت صورهم في نشراتها.
أتت الترندات، لكنها لم تنجرف صوبها، حافظت على توازنها.
للحقيقة ثمن باهظ، وفي أحيان كثيرة لا ينظر الناس نحوك؛ لأنك تقول لهم الحقيقة، بل يخشونك عندما تخبرهم عن مصدر النيران لا عن النيران وحدها.
"بلقيس" اليوم تحتفل بعيدها التاسع، وستحتفل بكل كلمة حُرة تُقال.
تركتها، لكن فيها الزملاء الممسكون حد السيوف بأكفهم، وذلك الثمن الذي علينا دفعه هو رؤية دمائنا على رؤوس رماح الآخرين.
وللأسف يكون الآخرون دوماً
هم من كنا نظنهم الأقرب إلينا.
لكن: هل علينا دائما أن نتذكّر
لماذا اخترنا السير نحو هذه الجهة الوعرة، أو الوجهة الموحشة، ولولا أنها كانت كذلك لما سرنا صوبها.
"بلقيس" لا تطفئ الشموع
بل توقد المزيد منها..
كل عام وأنتم بخير يا خير رفقة وخير سبيل.