مقالات
بين الخطأ والخطر
الخطأ هو من يقود الناس إلى الخطر، ولكي نتجنّب الوقوع في الخطر، علينا عدم التبرير للخطأ.
أحد عوامل تناسل الأزمات في بلادنا، طوال عقود من الزمن، يعود إلى استعداد جزء من النُّخب السياسية للتعامل مع المشاريع التي تقوِّض بناء الكيان الوطني، وتهدد استقراره وبقاءه، طالما وأنها ستحصل من ورائه على اليسير من المصالح الأنانية ذات الطابع الشخصي.
هذه الطبقة السياسية المتعفّنة، داخل صفوف الشرعية والانقلاب، جعلت الشعب اليمني مكشوفاً من كل النواحي، ومن المضحك والمحزن في الآن معاً أنها ما زالت تعتقد بأنها تمثِّله.
لكن من المحتم بأن المجتمع سينزع عنها الغطاء، كما فعل مع غيرها، وعندها ستصبح هذه القوى عورة اليمن الأبدية، لأنه ليس لديها ما تتستّر به.
من العجيب أن يسعى البعض، في زمن ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات، التي من المفترض أن تعمل على خلق وعي عام واجماع وطني على القضايا المصيرية، للمطالبة باتخاذ القروية، والانعزالية، سياسة، ووسيلة للنضال ومقاومة الانقلاب!
خلال الفترة الماضية، بادر عدد من ناشطي مجتمع اللادولة لإهدار تضحيّات اليمنيين من أجل الجمهورية والوحدة، التي قدَّمها الشعب طوال قرن من الزمن في التاريخ المعاصر، وساقوا التبريرات لمن يرفض الاعتراف بوجود يمن واحد، له نظام جمهوري قام على جماجم عشرات الآلاف من أهل اليمن شمالاً وجنوباً، وكأنّ اليمن اقطاعيات مفصولة عن بعضها البعض، وقدّم هؤلاء النشطاء مرافعات تتناقض مع كل دعاوَى السعي لاستعادة الدولة.
لقد كان أحد أسباب فشل التحرّكات الوطنية ضد نظام الإمامة، والاستعمار، هو انقسام القوى، والتيارات، والاختلاف فيما بينها، رغم أنها كانت تجمع على ضرورة إزاحة النظام الإمامي، والعمل على التخلُّص منه، والقضاء على الاستعمار وطرده، غير أنها لم تكن تمتلك تنظيماً وطنياً موحّداً، للقيام بالثورة في الشمال، ولا قاعدة ثابتة لانطلاق الثوّار في الجنوب، لمواجهة المستعمر الأجنبي، وقد تغلّب تنظيم الضباط الأحرار، الذي أنشأه ضباط الكليات العسكرية في شمال الوطن سابقاً، من ذوي الرُّتب الصغيرة، على معضلة التنظيم، وتوحيد الجهود، والأهداف، وقادوا ثورة استطاعت أن تزيح نظام الإمامة في السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، وبذلك أوجدوا قاعدة ثابتة لثوّار اليمن في الجنوب للانطلاق وإعلان الثورة في الرابع عشر من أكتوبر 1963م ضد الاحتلال البريطاني.
لقد كان لتشتت القوى الوطنية في الداخل، وتشرّدها في المنافي، في شمال الوطن سابقا، وعدم امتلاك الثوار في جنوبه العمق الجغرافي الذي يحمي ظهورهم، أحد الأسباب الذي يفسِّر الإخفاقات، قبل ثورتي سبتمبر وأكتوبر.
لكن ما العذر للقوى الوطنية اليوم، التي تقف على أرضية واحدة، وضمن دولة واحدة، وموقف واحد، حين تسعى لمهادنة المشاريع التي تهدف إلى تفكيك كيان الدولة؟
عندما تعرّضت ثورة سبتمبر، وتم حصار صنعاء من قبل فلول الإمامة، بدعم من الاستعمار والرجعية، عملت كل القوى الوطنية على تحييد خلافاتها، وتوحيد قواها تحت قيادة واحدة، وهدف واحد، ورؤية واحدة، وأزاحوا كل الخلافات الثانوية فيما بينهم، والتفوا تحت شعار الجمهورية أو الموت، وسعوا للانتصار دون أن يلقوا بالاً للمنافع الشخصية أو المناصب السياسية، والعسكرية.
سعى التحالف، منذ بداية تدخلّه في اليمن، لخلق واقع على الأرض، من خلال تحديد ميادين القتال، وقد ساعده على ذلك تحكّمه بالمال، والدّعم، والسلاح الذي قدّمه للقوات التي تواجه الحوثيين.
وهذا الواقع المفروض، الذي هدف التحالف إلى ترسيخه خلال السنوات السبع، عبر إيقاف المواجهات مع جماعة "أنصار الله"، ومنع تقدّم القوات التي يدعمها لتجاوز الحدود الشطرية للبلد - التي كانت من صنع القوى الأجنبية في مطلع القرن الماضي، لتحديد مناطق نفوذها داخل اليمن- وذلك من أجل تحديد مواقع القوّة بين الأطراف، وتصبح واقعاً تنطلق منه مفاوضات إنهاء الحرب.
إذْ من المعلوم لدى علماء السياسة، وعند كل خبراء المفاوضات، والوسطاء الدوليين، أن أي عملية تفاوض، بين الأطراف المتقاتلة، والمتحاربة، لا تستمد مرجعيتها بالضرورة من مبادئ القانون، بل من حقائق الواقع الذي رسمته القوة، وهذا ما يفسّر لنا جمود، ووقوف العمليات العسكرية عند الحدود الشطرية، فالمدى الذي تصل إليه القوّة هو البداية التي يبدأ منها التفاوض، بحسب السياسي البريطاني دافيد أوين ممثل المجموعة الأوروبية لحل الأزمة في البلقان.
كما يفسّر، أيضا، دعم الجماعات والقوات والمليشيات، ذات النزعات الانفصالية، المتوافقة مع طموحات، وتصوّرات الرياض وأبوظبي للمشهد اليمني.
طوال السبع السنوات الماضية، لم تكن هناك حقائق قادرة على فرض نفسها، ولم يكن هناك واقع يفرض الاعتراف به على الآخرين، وأمام ذلك جرى نقل السلطة في اليمن إلى المجلس الرئاسي الذي جرى إنشاؤه في السابع من الشهر الجاري، وأعلن المجلس أن الهدف الأساسي من نقل السلطة إليه هو التفاوض من أجل إنهاء الحرب في البلد.
هناك اليوم واقع تم فرضه،
وهناك موازين قوة تم إقامتها، وهناك ميادين قتال تم رسم حدودها ومواقعها، عبر إرادة التحالف.
وهناك مجلس رئاسي تم نقل السلطة إليه بطريقة لا تستند إلى الدستور، وإنما تعبّر عن الفاعلين الموجودين على الأرض، وما يمتلكونه من قوّة، وسلاح، ودعم من التحالف، ثم إن هذا المجلس حدد هدفه الرئيسي بصناعة السلام من خلال المفاوضات.
وهناك وسطاء دوليون مهمتهم التوسّط للتفاوض بين الأطراف المتقاتلة.
وهناك قاعدة في التفاوض بأن المدى الذي تصل إليه القوّة هو البداية التي يبدأ منها التفاوض.
وأظن -خلال السنوات السبع- تم رسم حدود الواقع، ولم يعد يحتاج إلا توقيع الأطراف عليه.
ولأن الشرعية السابقة بكل فسادها، وضعفها، ومساوئها، كانت تعبّر بصورة رمزية عن المشروع الوطني، ولم يكن بوسعها التوقيع أو القبول بمفاوضات تنتهي بالتنازل عن تطلّعات اليمنيين، وما توافقوا عليه في مخرجات الحوار الوطني، فقد تمّت إزاحتها، واستبدالها بأطراف لا تعبّر عن المشروع الوطني، بقدر ما تعبّر عن مشاريع ضيِّقة، ومصالح أجنبية، تمتلك وسائل القوّة على أرض الواقع، لترجيح اتخاذ القرار داخل السلطة، وإن وجدت شخصيات في المجلس تنتمي إلى المشروع الوطني الجامع، وتمتلك ضميراً وطنياً لم تلوثه الانتهازية، ولا الارتهان للمشيئة الأجنبية، إلا أنها عارية من وسائل القوّة، وليست في وضع يسمح لها بتعديل الموازين على أرض الواقع.
لقد علمتنا الأحداث أن القيام بأي حركة تسعى لتغيير اجتماعي، أو سياسي، ثم تضع هذه الحركة أمر قيادتها، أو تحقيق أهدافها، بأيدي غير المؤمنين بها، فإن النتيجة تكون ضياع الحاضر، وتدمير المستقبل، ورهن مصير الشعب لعصابات تتقاسمه، ترسم حدود نفوذها، وفق ما تملكه من قوة، وسلاح، وجرأة في ممارسة الجريمة باسم السلطة بحق المجتمع.