مقالات
بين سوق السياسة وسوق الحمير!
(1)
في سوق السياسة والحزبية العربية - واليمنية تحديداً - تشابه بقر الأحزاب والتكوينات السياسية علينا، حتى اختلط الأصلي منها بالمُقلَّد، واستوى العريق بحديث النعمة أو النقمة!
عرفنا قديماً حزباً واحداً وحيداً يُدعى "البعث".. غير أن ثمة بعثاً آخر بُعِث، فإذا بواحد سوري والآخر عراقي.. وتشابه البعثان والبعثيون علينا.. جماعة سوريا يقولون إنهم الأصل والفصل، لأن مولد الحزب ونشأته الأولى كان على أرضهم وفي عاصمتهم.. فيما يزعم بعثيو العراق بأنهم أحقّ بملكية الحزب الأصلية، لأن المؤسس القائد والزعيم الرائد بات مُقيماً بين ظهرانيهم، ويسكن في عاصمتهم، ويتجوّل بين شارعي المتنبي وأبي نواس.
وبعد موت عبدالناصر أسّس بعض مُريديه حزباً "ناصرياً"، لم تكن لناصر بصمة إبهام ولا سبّابة في أيٍّ من وثائقه ولا بيارقه.
وبصورة أسوأ ومشهد أنكأ مما حدث لسابقه العفلقي البيطاري، تناسل التنظيم الناصري في كل عاصمة عربية - وفي كل زغطوط يمني - ثم راحت التنظيمات الناصرية تشتم بعضها وتلعن، حتى إننا صرنا في اليمن نُسميها بأسماء ليست لناصر فيها صلة.. فهذا حزب المخلافي، وذاك حزب الجَنَدي، وثمة حزب الكهالي، وهكذا دواليك.
وحال اليسار وأهله، والماركسيون ولفيفهم، ليس بأهون من حال رفاقهم القوميين العروبيين.
فثمة طيوف واسعة من الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والتقدمية ساحت وفاحت من كردستان إلى نواكشوط، مروراً ببيروت والاسكندرية وأم درمان وطور الباحة وصلالة. ولم تكن تدري فارقاً حقاً بينها جميعاً في بيان ولا محاضرة ولا كتاب، ولا في مرجع ماوي، ولا مصدر تروتسكي، ولا وجهة لينينية، وإنما كان الفارق الوحيد في اسم البنك ونوع العُملة.
ودون البعثيين والناصريين واليساريين، ثمة مُسميات وتسويمات وتهويمات استفحلت ك: الإيدز، والايبولا، والسرطان، وكورونا، في كامل الخريطة العربية - واليمنية تحديداً - لا تدري تحت أيّ تصنيف سياسي تضعها، أو في نطاق أيّ خانة آيديولوجية تحشرها.. فإذا بك تُطلق عليها أسماء وعناوين وأرقام ما أنزل الله بها من سلطان، وكم تمنّيت أن تطلق عليها الرصاص وتخلص، بعد أن عجزت عن تبيان الليبرالية فيها من البرابرية والبرمائية.
وفي الوقت نفسه، وطوال هذا المسار السياسي التاريخي، ظل الجميع يعتقدون "الإخوان المسلمين" تنظيماً حديدياً وعصيّاً على التشرذُم، وأن ثمة تنظيماً دولياً - كما هي التسمية الشائعة - هو الذي يُدير الأطراف الإقليمية أو التفريعات المحلية في كل منطقة وبلد من منطلق مركزية سياسية وتنظيمية كونية واحدة وموحّدة.. وأن على التنظيم الدولي رأساً صلباً يُمثله رمز يكاد يُقدَّس، فيما يرأس التنظيم القُطْري مرشد عام لا تُرَد له كلمة، ولا حتى إشارة.
غير أن ما يحدث منذ زمن ليس بالبعيد في أكثر من قارة ودولة، ثم ما حدث مؤخراً بين استانبول ولندن، خلَّى اللي ما يشتري يتفرَّج على فضائح " الإخوان"، بعد أن تهتَّك الستار الحديدي على أمور يندى لها الجبين، وما كان يجدر بها الحدوث من جماعة يُحسسوك أن الله شخصياً رفيقهم في النضال، وزميلهم في المكتب السياسي.
وهكذا تشابه عليك أخوان آغا وأخوان طومسون، فيما ظلت روائح الدولارات والجنيهات الإسترلينية أكثر نفاذاً من بخور الجامع ومسك الجنّة!
( 2 )
أراد الغراب أن يُقلّد الطاؤوس في مشيته..
وأراد الذباب أن يقتدي بالجراد في غزوته..
وأراد الضبع أن يحتذي بالليث في بطشته..
وأراد شوربان أن يتقمّص نابوليون في هيبته..
ثم أراد حاكم عربي أن يُقلّد عادل إمام في نكتته..
إن الأصل يظل القدوة والنموذج، ولا يمكن لأيّ تقليد أن يرتقي إليه، في المثال الحسن والمثال السيِّئ على السواء.
وفي اضبارة التاريخ أمثلة شتّى على هذا المنوال. وكان الأصل يبقى والتقليد يتلاشى. في السياسة والحكم، وفي الخطابة والكتابة، وفي ميادين الفكر والعلم والرياضة والأناقة، وحتى في ملاعب القصف واللَّهو، هناك الأصل وثمة التقليد، وما بينهما الفرق شاسع والبون واسع.
إن العقل والذوق يبحثان عن الأصلي في الأشياء، رافضين المُقلَّد مما يُعَدُّ من سَقْط المتاع، أكان في مضمار الضروريات أو في مجال الكماليات، وفي السلع والأفكار، وفي المقتنيات والقِيَم.
مثالاً: تمتاز بعض العلامات التجارية (أو الماركات) بكونها أصلية "أي ذات جودة عالية"، عن أخرى مُقلَّدة "أي رخيصة ورديئة في جودتها وثمنها"، وبالتالي في ثقة الناس بها.
قبل اختراع السيارات - وما في حكمها من مركبات - كان أجدادنا الأوائل يذهبون إلى سوق الحمير - وما في حكمها من مراكيب وركائب - فيتفحّصونها، بدءاً من أسنانها، مروراً بظهورها وسيقانها، وصولاً إلى مؤخراتها. أي أنهم يتأكدون من كونها حقاً سُلالية أو ربما برَّانيَّة، فالحمير والخيول وسائر الدواب لا تستوي كلها، شأنها في ذلك كسائر السلع في الأسواق جمعاء. اِذْ يكون الفرز والفحص هو الأسلوب الأمثل لتبيان الغثّ من الثمين، على غرار ما كان يجري أيضاً في أسواق الجواري والعبيد.
غير أن الحابل اختلط بالنابل في هذا الزمان. وغير أن الحبل قد أُلقيَ على الغارب في هذا اليمان. وغير أن سقط المتاع قد ساد على كل ذي جودة، واستشرى في كل سوق وعقيدة.
فأنت اليوم تذهب إلى سوق الاقتصاد والمعاش، فلا تجد غير سقط المتاع ينبري قبالتك متحدّياً ومتسيّداً و"مُبهرراً" بحدقتيه على اتساعهما!
وأنت اليوم تذهب إلى سوق الثقافة والصحافة، ويا لخيبة ما تجد، ويا لفداحة ما تلقى، حتى إنك تظن أن ذهابك إلى سوق الحمير أنفع وأجدى!
وأنت اليوم تذهب إلى سوق الآداب والفنون، فإذا بالحال ثمة تبدو لك أسوأ والوضع يتجلّى لك أنكأ، فلا تعود تدري إذا ما دلفت إلى سوق الأدب أم إلى خان قلّة الأدب!
اللهم أنك قد ابتليت هذا البلد وأهل هذا البلد بحروب وأوبئة وخرائب وويلات ما أنزلت بها من سلطان، فاحفظ لنا عقولنا وضمائرنا وأذواقنا.