مقالات
تزدريك الإمامة فتمنحها ظهرك!
ما المفاجئ في حديث الشتيمة للمدعو الأهنومي، وهو يعيد وصم القبائل اليمنية بالكفر والطعن في أعراضها؟
حتى في اعتذاره، اعترف الدَّعي أنه لم يقل شيئاً من اختلاقه، وإنما أعاد قراءة ما أوردته كتب الأئمة الزيدية ومؤرخوها.
تحتفظ هذه الكُتب للقبائل اليمنية بنظرة احتقار وازدراء، فالقبائل بالنسبة للأئمة مجاميع من الكفرة، منحطون أخلاقياً، يقدمون نساءهم للغريب، ويفتقدون للحمية!
هذه الشتائم، التي تعكس سفالة وانحطاط الإمامة، ستظل تُلصق بكل مخالفي الرسي ومخالفي أتباعه والأئمة من بعده، وصولاً إلى عبدالملك الحوثي.
لكن الأمر لم يكن خفياً بالنسبة لليمنيين، كما أن مليشيا الحوثي أعادت إحياء هذا التاريخ حرفياً والزيادة عليه بأفظع منه، منذ لحظتها الأولى، وقالت كل شيء بحق مخالفيها.
ولطالما واظب كتاب وباحثون يمنيون على فضح هذه المليشيا، والتذكير بهذا التاريخ البشع للإمامة، لكن الكثيرين لم يكترثوا، وكان كثيرون أيضاً يدافعون عنها وهم في صفوفها!
حالة الدَّهشة الماثلة لدى البعض تثير أسئلة لا تتوقف: كيف أمكن لأنظمة ما بعد ثورة 26 سبتمبر الجمهورية تجاهل هذا التاريخ البشع، وعدم تضمينه المناهج التعليمية؟
هل حملت الجمهورية أشباح الإمامة داخلها حتى منعت الاقتراب من التاريخ الزيدي الحقيقي في البلاد، وفضحه للأجيال، ولأبناء القبائل تحديداً؟
لقد كان النيل من أعراض المخالفين عقيدة راسخة، ورغم كل الأعوام، وتغيّر الحُقب، فقد حافظت هذه الجماعة المارقة على "أصالة" فساد مؤسسها وأخلاقه.
هل تتذكَّرون الاتهامات لليمنيين المخالفين للحوثي أثناء الحرب في تعز وعدن والساحل وحضرموت؟
في ستينات القرن الماضي، عندما زار الزعيم عبدالناصر صنعاء دعماً للجمهورية، كان الإمامي أحمد الشامي، وزير خارجية الملكيين وقتها، يشتم اليمنيات اللواتي خرجن مزغردات ابتهاجا بالزيارة.
نظم الرجل، الذي كان أديباً متمكناً، أبياتاً من الشعر الشعبي، لكنه أورده على ألسنة نسوية يعترضن على زيارة ناصر!
"بتحجرين؟ لا هو إمام ولا حج هو يا قحاب من حق بحر رجرج".
وهل كان للنسوة وقتها مواقف سياسية يعبِّرن عنها شعراً، غير الشاعر الشامي؟
ترد هذه "الغنوية" التي يزعم الشامي أنها تنتمي للشعر الشعبي في كتابه قصة الأدب اليمني، وينقلها عنه الأستاذ والفنان الراحل الكبير محمد مرشد ناجي في كتابه الغناء اليمني، ومشاهيره.
يختصر هذا البيت نظرة الإمامي الشامي للحكم باعتباره حقاً حصرياً للإمام، وهو من يجب خروج النساء لرؤيته، كما يجسد الازدراء والاحتقار الذي تبطنه هذه السلالة لليمنيات واليمنيين عموماً، فهم مجرد مزغردين ومبتهجين -لا أكثر- بالإمام!
ثم إن البيت يكثِّف موقفه من الجمهورية وقِيمها ورئيسها والضيف الزائر، من خلال وصفهم بأنهم من "حق بحر رجرج": و"بحر رجرج" شارع شعبي صغير في صنعاء القديمة، لذلك فهؤلاء الجمهوريون المحتقرون، باعتبارهم من عامة الشعب، ليسوا جديرين بالحكم، ولا يستحقون الزغردة والاحتفاء؛ لأنها حق حصري للإمام في استخداماتها العامة.
بهذا الاستعلاء العنصري، يعتقد الشامي أن "طبقته المقدّسة" تسمح له وللأئمة وأتباعهم عموماً نعت اليمنيات واليمنيين ب"القحاب"، وهذا مجرد بيت شعري واحد من تراث قذر يتكوَّم في المكتبات، ويترسّخ في رؤوس هذه السلالة العنصرية.
من المفترض أن هذا يعيدنا إلى الجذور المؤسسة لمعرفة كيف جرى سلب اليمنيين إرادتهم، وتوظيفهم في خدمة "تسيٌّد" هذه السلالة، ومنحها حقاً حصرياً في الحكم والخضوع لها.
ما هو راسخ أن "يحيى الرسي" استخدم كل ما يخطر ولا يخطر على بال من اصطناع الأحاديث المؤيدة لمزاعمه كوريث للنّبي، وادعائه المعجزات والكرامات، وصنوف الدَّجل.
كما أنه لم يتورَّع عن استخدام أكثر أسلحته رخصاً وانحطاطاً وهو رمي خصومه ومخالفيه بأحط وأبشع التُّهم، بما فيها تلك الأخلاقية عن الدَّعارة ووطء الذُّكور، في توظيف قذر لأسوأ أشكال الدِّعاية.
لكن كيف لوافد أن يصنع كل ذلك بالقبائل في موطنها؟
بعيداً عن مصداقية الروايات بشأن طبيعة مقدم يحيى الرسي إلى اليمن، وتحديداً إلى صعدة، فما هو ثابت أن الرّجل لم يغادر الدّنيا في عام 298 هجرية، أي بعد 14 عاماً على مقدمه الثاني، إلا وقد تمكَّن من رقاب القبائل اليمنية "همدان"، وخاض بها حروباً ضروساً لإخضاعها ببعضها، وصارع بالكل ضد الجميع!
ينبِّئ ذلك بحالة التمزّق التي تعتري القبائل اليمنية، ومازالت، كما يعيد التذكير بمشكلة عميقة تتعلَّق بقلق أبناء العمومة البالغ حيال أي زعامة محلية، لكنهم في المقابل يبدون مرونة للخضوع للغريب، ويبلغ الأمر حد الطاعة العمياء إذا كان مدججاً بخرافات دِينية.
في هذا السياق، يلخص مصير العالم اليمني الفذ أبي الحسن الهمداني (280 – 336 هجرية)، "المؤلف النابغ في شتى العلوم"، هذه المفارقة.
بسبب موقفه الرافض لهذه الإمامة النَُجسة، وممارساتها بحق اليمنيين، واعتداده بقحطانيّته، أٌلقي به في السجن على ذِمة قصيدة "الدامغة"، بينما كان أبناء عمومته يخضَعُون للرّسي الابن!
لقد طُمست معالم قبر اليمني القحطاني الهمداني، وضاعت أجزاء كبيرة من مؤلفاته العظيمة ومعارفه، بينما بقيت خرافات الأئمة تُمجَّد.
أما قبورالوافدين، الذين أساءوا للقبائل اليمنية وطعنوا في أعراضها وارتكبوا صنوف الجرائم، فتحاط بالأسوار وتزيِّنها القباب، ويتبرك بها أبناء القبائل حدّ العبادة!
هل يخطر ببالكم الآن قبر الهالك حسين الحوثي؟
إنه لمن المحيّر فعلاً أن هذه المشكلة الرهيبة، التي تخللت تاريخ اليمنيين على مدى قرابة 1200 عام، نهضت على تبخيس اليمنيين وإزدرائهم، والنيل منهم ومن رموزهم، مع ذلك كانت البيئة التي احتضنتها مستجيبة ومحتشدة في أحايين كثيرة ضد نفسها!
بالتأكيد هناك حالات رفض شابت هذا التاريخ، وهناك دول يمنية عظيمة قامت على أنقاض دويلات الأئمة الزيدية ومخلفات حروبها، لكن هذه النَّبتة الشيطانية لم تكن لتنحسر حتى تعود لتتمدد.
لقد ترسَّخت الزيدية كمذهب للقبائل اليمنية القوية في الشمال مع خضوعها وتعاقب الأئمة، وكان تمذهبها يعني أن الإمامة وجدت العصا الذي تهوي به على ظهور هذه القبائل ضد بعضها، وعلى ظهور اليمنيين في المناطق الأخرى.
إن الزيدية بأشكالها المختلفة، حتى المتسامحة منها، هي نظرية سياسية في الحكم تقول بعنصرية السلطة "الإمامة"، وكل من يؤمن بها يؤمن بالإمامة قولاً واحداً.
لا يمكن أن تكون يمنياً جمهورياً وزيدياً في الوقت نفسه!
لولا هذه العصبية لما عادت الإمامة بأقبح وجوهها، ولما شاهدنا صالح، الرجل الذي حكم الجمهورية لأكثر من 33 عاماً، وتنعّم هو شخصيا ببركاتها كرئيس جاء من قاع المجتمع، ثم في لحظة انتقام يحمل الإمامة على ظهره عائداً بها إلى صنعاء بعد قرابة 60 عاماً من الثورة.
إنه داء النِّقمة والنكاية والعصبية الجاهلية، الذي منح ظهره أولاً للرّسي.. وقبل عشر سنوات للحوثي!