مقالات
حرب الظلال.. من يمسك بخيوط الشرق الأوسط؟ الجزء (2)
دوافع ومصالح إيران.. العقيدة أم البراغماتية؟
تحليل جدلي لتشابك الأيديولوجيا والمصلحة في السياسة الخارجية الإيرانية
تمهيد
في خضم النزاعات المعقدة التي تعصف بالشرق الأوسط، كثيراً ما تُسلّط الأضواء على الأبعاد العسكرية والاقتصادية بوصفها المحددات الحاسمة لتوازنات القوى. غير أن هذه القراءة، رغم واقعيتها الظاهرة، تُغفل طبقات أعمق وأكثر تجذراً في البنية الذهنية والسلوكية للفاعلين؛ طبقات ترتبط بالاعتقاد، والذاكرة، والتاريخ المُتخيل. فخلف كل تحالف معلن، وضربة عسكرية، وعقوبة اقتصادية… تقف منظومة كاملة من الدوافع الرمزية والنفسية التي تُعيد إنتاج منطق الصراع، وتُشرعن أدواته، وتُؤدلج نتائجه.
في هذه الحلقة من سلسلة “خيوط الظلال”، لا نكتفي بتحليل أدوات الصراع الظاهرة، بل نخوض في عمقه الرمزي الكامن:
1. كيف تُوظف العقيدة الثورية في صياغة السياسات الخارجية وبناء شبكات النفوذ؟
2. كيف تلعب الذاكرة الجمعية وعُقد التاريخ دوراً غير مرئي في توجيه السلوك السياسي؟
3. ولماذا تُقدَّم بعض الصراعات بوصفها حروبًا وجودية لا تقبل التسوية؟
سنتناول النموذج الإيراني كحالة مركزية لتشريح هذا التداخل بين العقيدة والبراغماتية، وكيف تستثمر طهران خطاب “المظلومية والمقاومة” لبناء شرعية داخلية وتأثير خارجي. كما سنحلّل كيف تُعيد إسرائيل بناء سرديتها الأمنية على أرضية الهولوكوست و”الخطر الوجودي”، مما يخلق عقلاً استراتيجياً مهووساً بالبقاء ومشدوداً إلى منطق القوة الوقائية.
هذه ليست قراءة وجدانية للصراع، بل محاولة تفكيك منظَّم للذهنية الصراعية كما تتشكل وتُستثمر في سياسات النفوذ والتوسع. فالحرب هنا لا تُخاض بالسلاح فحسب، بل بالمخيال المُعبّأ، والخطاب المقدس، والرمز المعاد إنتاجه.
إن فهم هذا البعد النفسي–العقائدي للصراع لا يفتح باباً للتفسير فحسب، بل يسلّط الضوء على الأسباب العميقة لإطالة أمد النزاع واستعصائه على الحلول، ويُبرز أهمية تفكيك منظومات الإدراك قبل معالجة الوقائع السياسية نفسها.
أولاً: العقيدة أم البراغماتية؟ تداخل معقد في صناعة القرار
من المعلوم أنه، وفي قلب الصراعات الجيوسياسية التي تُعيد تشكيل الشرق الأوسط، تبرز إيران كفاعل مركزي يمتلك سردية ثورية، وأذرعًا ممتدة، وأجندة استراتيجية متعددة الأبعاد. لفهم سلوكها الإقليمي، لا يكفي اللجوء إلى التحليل التقليدي الذي يفصل بين الخطاب العقائدي والمصلحة البراغماتية؛ فإيران تُقدّم حالة فريدة من التداخل البنيوي بين العقيدة والمصلحة، حيث تتحول الأيديولوجيا إلى أداة ناعمة لتعظيم المكاسب، بينما تُغلّف المصالح بلغة ثورية تُضفي عليها شرعية داخلية وخارجية.
هذه الجدلية المعقدة تُشكّل أحد الأعمدة الجوهرية في تفسير سياسة طهران تجاه محيطها العربي، وخصوصًا في الملفات المتعلقة بفلسطين، اليمن، سوريا، ولبنان.
• العقيدة الثورية كإطار تعبوي وشرعي
تقوم السياسة الخارجية الإيرانية على خطاب عقائدي متجذر في مبادئ الثورة الإسلامية عام 1979، التي بُنيت على قاعدة “لا شرقية ولا غربية”، ورفع شعار “نصرة المستضعفين” ضد “الاستكبار العالمي” ممثلًا في الولايات المتحدة، و”الصهيونية” ممثلة في الكيان الإسرائيلي.
هذا الخطاب لا يمثل فقط بُعدًا رمزيًا، بل يُعد حجر الأساس في بناء الشرعية السياسية للنظام داخليًا، ويُستخدم لحشد القاعدة الاجتماعية خلف مشاريعه الإقليمية، ولترسيخ صورة إيران كقائد لـ”محور المقاومة”.
من هذا المنطلق، فإن دعم إيران لحركات مثل حماس في فلسطين، وجماعة أنصار الله في اليمن، لا يُقرأ فقط كتحالف سياسي، بل يُقدّم للرأي العام الإيراني والعربي كواجب ديني وثوري في وجه “الاحتلال والهيمنة”. فهذه الحركات -من منظور طهران- تُجسد فكرة “المقاومة المشروعة”، وتُعبّر عن امتداد لرسالة الثورة الإسلامية التي ترفض التبعية، وتدعو إلى استعادة السيادة الوطنية و”كرامة الأمة”.
لكن هذه الرؤية الثورية ليست جامدة أو منغلقة، بل هي مرنة وقابلة للتكيّف، وتُستخدم بذكاء في صناعة سرديات قادرة على التغلغل في المزاج الشعبي العربي، خصوصاً في ظل تراجع الخطاب القومي العربي، وانكشاف بعض الأنظمة التقليدية.
• توظيف الدين لخدمة الأمن القومي
في العمق، لا يمكن عزل هذا التوجّه العقائدي عن اعتبارات المصلحة القومية والاستراتيجية. فالدعم الإيراني لحماس لا يُفضي فقط إلى تعزيز الخطاب الثوري، بل يُمكّن طهران من التغلغل في صميم القضية الفلسطينية، وتسجيل حضور مباشر في قلب الصراع العربي–الإسرائيلي، ما يمنحها أوراق ضغط حيوية على طاولة الإقليم.
أما في اليمن، فإن دعم الحوثيين يوفّر لإيران إمكانية الوصول إلى مضيق باب المندب، أحد أهم الممرات الملاحية العالمية، ويُعطيها القدرة على تهديد أمن الملاحة في البحر الأحمر ومصالح الدول الخليجية، وهو ما يعزّز موقعها التفاوضي، ويزيد من نفوذها الإقليمي.
فما تقدّمه إيران ليس فقط أموالاً أو سلاحاً، بل منظومة تأثير كاملة: تدريب عسكري، دعم إعلامي، شبكات دينية وثقافية، مؤسسات تعليمية، وقنوات مالية غير رسمية. وهذا ما يجعل من وكلائها أكثر من مجرد أدوات عسكرية؛ إنهم امتدادات وظيفية للبنية السياسية الإيرانية، تؤدي أدوارًا متعددة داخل المنظومة الإقليمية.
الجدير بالملاحظة أن إيران لا تتردد في مراجعة تحالفاتها أو تقليص دعمها إذا تغيرت التوازنات؛ فحين اصطدمت الأهداف التكتيكية لحماس مع أولويات طهران في بعض الفترات، تراجع مستوى التنسيق مؤقتًا، دون أن يُلغى كلياً. وهذا يعكس أن ما يحكم العلاقة هو المرونة البراغماتية أكثر من الالتزام العقائدي الصلب.
• الثورة أم الدولة… من يُنتج القرار؟
السياسة الإيرانية ليست ناتج قرار فردي أو مركزي جامد، بل تُنتج من خلال صراع مستمر بين مؤسسات “ثورية” (كالحرس الثوري وخامنئي) ومؤسسات “دولتية” (كوزارة الخارجية والرئاسة).
هذا الانقسام البنيوي بين “منطق الثورة” و”منطق الدولة” ينتج توترات دائمة، لكنه يخلق أيضًا نوعًا من التوازن الداخلي يسمح لإيران بالتحرك في مسارات متوازية: التصعيد في ساحة معينة، والمهادنة في ساحة أخرى، دون أن تفقد تماسكها الداخلي.
هذا ما يفسّر لماذا يُمكن أن تفاوض إيران على برنامجها النووي بشروط مرنة، بينما تستمر في دعم الحشد الشعبي في العراق، أو تقصف بصواريخها الباليستية مواقع في أربيل، أو تموّل شبكات إعلامية في لبنان وسوريا.
• نموذج ثوري– براغماتي فريد
في التحليل الأخير، لا يُمكن فهم السلوك الإيراني في السياسة الخارجية عبر الفصل الثنائي بين الأيديولوجيا والمصلحة، بل عبر تفكيك العلاقة الجدلية التي تجمع بينهما.
إيران تُجسد نموذجًا مركّبًا لـ “العقيدة المُوظّفة”، حيث تُستخدم المفاهيم الدينية والثورية كأدوات لتعزيز النفوذ، وبناء التحالفات، وإدارة التوازنات، وتحقيق مكاسب استراتيجية ملموسة.
في هذا الإطار، فإن التوسع الإيراني ليس فقط نتاج عقيدة ثورية، ولا مجرد سعي مصلحي تقليدي فحسب، بل صيغة هجينة من “التبشير الثوري” و”التحكم الجيوسياسي”.
بمعنى: إنه مشروع يستمد شرعيته من خطاب مقاوم، ويترجم نفسه على الأرض عبر شبكات مصالح عابرة للحدود، قادرة على المناورة، والصمود، وإعادة التموضع، بحسب ما تقتضيه المعادلة الدولية والإقليمية.
وهذا ما يجعل إيران – بكل تعقيداتها – فاعلاً لا يمكن تجاوزه في أية محاولة لإعادة رسم توازنات الشرق الأوسط.
ثانياً: البعد النفسي/التاريخي.. رواسب الماضي وتطلعات المستقبل
سيكولوجيا الدولة والمخيال الجماعي كقوة دافعة للصراع
من خلال النظر العميق للسلوك الجيوسياسي للقوى الفاعلة في الشرق الأوسط، لا يمكن إغفال الدور الجوهري لما يُعرف بـ”الذاكرة الجمعية” و”سيكولوجيا الدولة”… فالقرارات السياسية والعسكرية لا تصدر دائمًا عن معادلات مادية بحتة، بل تتغذى على رواسب تاريخية عميقة وشعور متراكم بالظلم، أو توق لاستعادة مجد مضى، أو رغبة في الثأر الرمزي من هزائم تاريخية لا تزال حاضرة في الوعي القومي.
هذه العوامل النفسية ليست هامشية، بل تمثّل وقودًا خفيًا يغذي صراعات الحاضر، ويُعقّد من إمكانية تسويتها.
١- إيران والتاريخ الصفوي–القومي
في الحالة الإيرانية يتداخل الموروث الصفوي–الثوري مع خطاب قومي فارسي عريق، يعتبر إيران وريثة “الإمبراطوريات الكبرى” في المنطقة. هذا الشعور المتضخم بالذات الجماعية يتجلى في نزعة “استعادة الدور الطبيعي لإيران كقوة إقليمية مركزية”.
الهزائم أمام العرب في مراحل تاريخية، وصولًا إلى تدخلات الاستعمار البريطاني والأمريكي، وخصوصًا حادثة الانقلاب على حكومة مصدق عام 1953، تُعدّ كلها جروحًا سيكولوجية جماعية تُعاد ترجمتها في الخطاب الرسمي كدوافع لـ”الاستقلال”، و”رفض التبعية”، و”الانبعاث الثوري”.
وفي ظل هذا السياق، فإن تصدير الثورة لا يُفهم فقط كمشروع سياسي، بل كفعل نفسي تراكمي هدفه “رد الاعتبار الحضاري”، وإعادة موضعة إيران في خريطة الهيمنة الإقليمية.
٢- إسرائيل وهواجس النجاة والتفوق
أما في الحالة الإسرائيلية، فتلعب الذاكرة التاريخية اليهودية دوراً حاسماً في رسم حدود “الخطر الوجودي”. الهولوكوست، وتاريخ الاضطهاد الممتد لأكثر من ألفي عام، وغياب الدولة القومية اليهودية حتى منتصف القرن العشرين… كلها عوامل متضافرة أسّست لبنية نفسية تقوم على الخوف العميق من الإبادة وحتمية الدفاع المسبق.
هذه السيكولوجيا الجماعية تُبرر بشكل شبه دائم استخدام القوة الوقائية والعدوان الاستباقي، والتوسع العسكري، ليس فقط لأسباب استراتيجية، بل لأن العقل الأمني الإسرائيلي مبرمج على اعتبار التهديد تهديدًا وجوديًا لا يقبل المجازفة.
وبالتالي، حين يدخل الطرفان – الإيراني والإسرائيلي – في مواجهة، فإنهما لا يتحركان فقط وفق منطق المصالح، بل بدوافع تاريخية عاطفية تُضفي طابعاً وجودياً ومعنويًا للصراع، وتُصعّب إمكانية القبول بالتسويات أو التنازلات، لأنها تُفسَّر داخل كل طرف كـ”هزيمة رمزية” أو “خيانة تاريخية”.
٣- البعد الإعلامي–الدعائي: من خلال السيطرة على الرواية وبناء الإدراك الجمعي
المعلومات كسلاح استراتيجي في معركة الوعي
لم يعد الصراع الحديث في أي مكان من العالم، شرقه أو غربه، جنوبه أو شماله، يقتصر على ساحات القتال أو طاولات التفاوض… فقد تحولت وسائل الإعلام ومنصات التواصل إلى ساحات موازية للصراع، تُخاض فيها “معركة الروايات” التي تهدف إلى بناء الشرعية، وتبرير السياسات، وكسب تأييد الجمهور المحلي والدولي، والتأثير على وعي الخصم، وتحفيز الانقسام في صفوفه.
في هذا السياق، تُعدّ “السيطرة على السردية” أحد أهم أهداف الأطراف المتصارعة، حيث تسعى كل جهة لفرض نسختها من الحقيقة، ونزع الشرعية عن سردية الطرف الآخر.
٤- الإعلام الإيراني كمنظومة حرب نفسية
هندسة الوعي وصياغة السردية كأداة استراتيجية للنفوذ
يُعتبر الإعلام في الاستراتيجية الإيرانية أكثر من مجرد وسيلة اتصال أو أداة ترويجية تقليدية، بل يتعدى ذلك ليشكل مكوّنًا هيكليًا من منظومة النفوذ الإقليمي، يُوظف بذكاء ضمن رؤية متكاملة لهندسة الإدراك وصناعة الشرعية وخلخلة بيئة الخصوم من الداخل.
فالجمهورية الإسلامية، منذ نشأتها عام 1979، أدركت أن القوة لا تُمارس فقط عبر السلاح، بل من خلال “الهيمنة الرمزية” على الوعي الجمعي، محلياً وإقليميًا وعلى المستوى الدولي أيضاً، عبر خطاب مُحكم ومنظّم متعدد الطبقات.
٥- التنويع الطبقي واللغوي واستراتيجية التشظي المنظّم
المنظومة الإعلامية الإيرانية تعتمد على شبكات متعددة المستويات، تُخاطب شرائح متنوعة وفق لغة المصالح والانتماءات:
• قنوات تلفزيونية موجهة: مثل قناة “العالم” الناطقة بالعربية، و”برس تي في” بالإنجليزية، و”هيسبان تي في” بالإسبانية. تُقدَّم هذه القنوات في هيئة “إعلام دولي بديل” لما يُوصف بالهيمنة الغربية الإعلامية، وتُحاول تشكيل خطاب مقاوم موجه للجنوب العالمي.
• منصات رقمية وحسابات إلكترونية: تتضمن شبكة من الحسابات الوهمية والمنسّقة التي تُمارس ما يُعرف بـ”الهندسة النفسية الرقمية” عبر التضخيم، والتكرار، واختراق مجموعات التواصل والتعليق الجماعي، فيما يُعرف تكتيكيًا بـ”الذباب الإلكتروني الموجَّه”.
• أذرع إعلامية لوكلاء إيران: مثل “المنار” (حزب الله)، و”المسيرة” (أنصار الله)، و”الاتجاه”، و”الميادين”، وغيرها. جميعها تُقدم خطاباً محلياً في الشكل لكنه منسجم في الجوهر مع سردية إيران الأم: مقاومة، مظلومية، عدو مشترك، وتبرير للتدخلات.
وهذه البنية المتشابكة لا تعمل عشوائياً، بل وفق بنية مركزية تحليلية توجه الخطاب بما يتلاءم مع الأحداث، وتتحرك وفق منهجية زمنية تتراوح بين التغطية الانفعالية الفورية والتأطير الاستراتيجي طويل الأمد.
- تكتيك المظلومية والرمزية الشيعية عبر صناعة المعنى وتعبئة الهوية
تركّز السردية الإعلامية الإيرانية على “ثنائية المظلومية والواجب الثوري”. فـ”الشيعة” يتم تصويرهم كضحايا تاريخيين للظلم، بدءًا من كربلاء إلى “الاستكبار العالمي”، وتُستدعى هذه الرموز لتُبرر أي فعل ميداني أو تحالف عسكري من حيث:
• كربلة الواقع: يتم تأطير الصراعات الحديثة (في اليمن، العراق، سوريا، لبنان) على أنها امتداد رمزي لمعركة كربلاء، حيث “الحسينيات” تُقصف، و”آل البيت” يُستهدفون، ما يخلق شعورًا داخليًا عامًا بواجب “الثأر المعنوي”.
• إسرائيل كرمز شيطاني: لا تُقدَّم كعدو سياسي فحسب، بل كـ”رمز أنطولوجي للشر والاحتلال”، وهو تأطير يُسهم في تسويق السردية على نطاق إسلامي أوسع، يتجاوز الطائفة الشيعية.
بهذا الأسلوب، لا تقوم إيران فقط بـ”إقناع الجماهير”، بل تعمل على “إنتاج المخيال السياسي”، حيث تُصبح رموز معينة (التحرير، المقاومة، القدس، الظلم) بمثابة مفاتيح ذهنية تُفعّل الاستجابة الشعورية لدى الجمهور وتُوظّف سياسيًا.
٧- الاختراق المعلوماتي وخلخلة بيئة الخصوم
أحد أخطر أبعاد المنظومة الإعلامية الإيرانية هو سعيها إلى زرع الشك، وتقويض الثقة، وإضعاف التماسك الداخلي في بيئات خصومها من خلال:
• بث الشائعات السياسية المنهجية عبر قنوات متخصصة تستهدف ضرب الثقة بين الشعوب وحكوماتها.
• التشكيك في شرعية الخصوم وتوصيفهم كعملاء للغرب أو أدوات للصهيونية.
• احتواء بعض النخب الثقافية والإعلامية في دول معادية، عبر الدعم أو الارتباط الهوياتي أو التمويل الناعم، لبث سرديات مُوازية “من الداخل”.
هذه الأساليب تُعد من صميم “الحرب النفسية الرمادية”، حيث لا يُستخدم السلاح التقليدي، بل يتم تآكل الخصم من داخله عبر زرع الانقسام والتشويش الرمزي.
إن قراءة المنظومة الإعلامية الإيرانية خارج سياق الاستراتيجية الكبرى هو تقصير تحليلي… فهي لا تتحرك بوصفها أدوات للخبر فحسب، بل كجزء من منظومة تعبئة جماهيرية وصياغة سردية وتحطيم معنويات الخصوم.
إنها إعلام لا يكتفي بنقل الوقائع، بل يُعيد تأويلها وتفكيكها وفق منطق يخدم الأهداف الجيوسياسية الإيرانية. لذا، يجب النظر إلى هذا الإعلام بوصفه جزءًا من منظومة الردع والهجوم والاختراق الثقافي–الذهني في آنٍ معًا.
ثالثًا: الإعلام الإسرائيلي والدبلوماسية الرقمية
في المقابل، تعتمد إسرائيل على ما يُعرف بـ”الدبلوماسية الإعلامية”، وهي منظومة متكاملة من القنوات الناطقة بلغات متعددة، ومنصات حكومية رسمية على السوشيال ميديا، وشبكات ضغط إعلامي على المستوى الدولي (بما يشمل الصحافة الغربية الكبرى، ومراكز التفكير، وجماعات الضغط الإعلامي).
الهدف الأساسي هو نزع الشرعية عن المقاومة، تصوير إسرائيل كضحية، وتبرير استخدام القوة بوصفه “حقًا للدفاع عن النفس”.
كما تسعى إسرائيل إلى تحويل الرأي العام العربي عبر “التطبيع الإعلامي”، حيث تُركز قنواتها على نشر محتوى موجه يراهن على تعب المشاهد العربي من الخطابات الثورية التقليدية، وتقدّم إسرائيل كدولة “عصرية” و”رائدة تكنولوجيًا”، بما يُحدث تصدّعًا في الحاجز النفسي–الثقافي الذي لطالما حال دون قبولها في المخيال الجمعي العربي.
الإدراك والذاكرة
إن تحليل البعدين النفسي والتاريخي والإعلامي والدعائي، يُظهر أن الصراعات المعاصرة لا تُدار فقط بالقوة العسكرية أو المفاوضات الدبلوماسية، بل بخطاب الهوية، والتحكم في الوعي الجمعي، وصناعة الصور النمطية.
وهذا يعني أن أي تحليل استراتيجي للصراع الإيراني–الإسرائيلي لا يمكن أن يكتمل دون فهم معمق للدوافع النفسية الجماعية، والرموز التاريخية المؤسسة، والآليات الدعائية التي تُعيد إنتاج الصراع في الوجدان العام.
فكما أن ميدان الحرب الحقيقي هو الجغرافيا، فإن ميدان الحسم الرمزي هو الإدراك، والتاريخ، و”من يروي القصة”.