مقالات
حكاية البنت البكماء
ولدت وكبرتْ وتبرعمت وتفتحت مثلما تتفتح زهرة في الربيع، وراح أريجها يعبق، وصدرها يتكوَّر، وصوتها يرق ويزداد جمالاً وحلاوةً وعذوبة.
كانت مُنْتَهَى فتاة بكماء وجميلة في الرابعة عشرة من عمرها، لكنها وهي البكماء كانت كل صباح تغني بصوت شجي وعذب يخطف القلوب حتى إن من يسمعها، وهي تغني يخالجه شعور بأنها ليست بكماء.
ولشدة جمال صوتها لم يكن أهالي القرية يشكون ويتبرَّمون وينزعجون منها، وهي تغني في الصباح الباكر وهم نيام.
على العكس، كانوا يستيقظون من نومهم ليسمعوها ويستمتعوا بجمال صوتها، الذي ما انفك ينعشهم، ويدخل الفرح إلى قلوبهم، ويجعل مزاجهم رائقا طوال اليوم. لكن منتهى الفتاة البكماء لم تكن تغني في أي وقت، وإنما تغني في الصباح قبل شروق الشمس وهي في طريقها إلى النبع وكانت أغنيتها تلك بمثابة شمس صغيرة تدخل الدفء إلى كل بيت وإلى كل قلب
وحده فقيه القرية كان يتضايق من صوتها وهي تغني، ويتعكّر مزاجه، وكثيرا ما كان يشكوها إلى أبيها عبد الله الصانع، ويقول له بصوت مفعم بالغضب:
- "يا عبد الله أدِّب بنتك.. يا عبد الله امنع منتهى من الغناء.. يا عبد الله الغناء حرام وبنتك تبكر تغني على الرِّيق".
كان -وهو المعجب بصوته- بمجرد أن يترامى إلى مسامعه صوتها وهي تغني، يصرخ ويهيج ويفور من الغضب، ويشعر بحقد تجاهها وبغيرة من صوتها، ويصرخ من سقيفة بيته قائلا:
- "هذا الفحش والمنكر تفعله البنت منتهى وهي بكماء عجماء، كيف كانت با تفعل لوهي تتكلم!!".
كانت تستيقظ قبل أن تستيقظ القرية، وتحمل جرتها، وتمضي إلى النبع لجلب الماء، وهي تغني بصوت شجي ندي ونقي، أنقى وأصفى من ماء الينبوع، وكان أبوها عبدالله الصانع بتحريضٍ من الفقيه يوبخها ويقول لها محذرا:
-"يا منتهى يا بنتي الغناء حرام"، ويطلب منها أن تتوقف عن الغناء.
وكانت منتهى تعِده وتقول له بلغة البكم والدموع تسيل من عينيها بأنها لن تغني. لكنها في الصباح وهي في طريقها إلى النبع لتملأ جرتها بالماء. كانت تنسى تحذيرات أبيها، وتنسى أنها وعدته بأنها لن تغني، وتنسى أن لها أباً، وتنسى فقيه القرية، وتنسى القرية، وتنسى نفسها، وتجهش بالغناء، وتظل تغني إلى أن تشرق الشمس.
ومن بعد شروق الشمس كانت منتهى تتوقف عن الغناء، وتلوذ بالصمت، وتبقى صامتة بكماء عجماء طوال اليوم.
كان أهالي القرية يستيقظون من نومهم على صوتها، وهي تغنّي غنيتها الصباحية، وكانوا يرهفون آذانهم لسماعها، ويتساءلون بينهم وبين أنفسهم: من أين لها هذا الصوت الجميل!!
وكيف تغني بهذا الإحساس وبهذا الجمال!! وهل هي حقا بكماء؟!
كانوا يستغربون من موقف الفقيه، ويستغربون أكثر من أبيها عبد الله الصانع، ويقولون له:
- "يا عبدالله لا تصدق الفقيه .. الفقيه يحسد منتهى بنتك ويغير من صوتها"
لكن أباها عبد الله لم يكن ينصت لكلامهم، وهم يثنون على منتهى ابنته، وعلى صوتها الجميل، وإنما كان ينصت لكلام الفقيه اعتقادا منه بأنه رجل الله في القرية والوحيد الذي يتكلم بلسانه.
وذات يوم وقد وقد شكاها الفقيه ضربها ضربا مبرحا، وقال لها:
- "الغناء حرام يا بنتي! اسمعي الكلام لا تخزَّيْبِي قدام الفقيه"،
وحتى يقنعها بأن الفقيه على حق قال لها:
- "الفقيه يا منتهى يعرف ما يضرنا وما ينفعنا، ويعرف ما هو الحلال، وما هو الحرام، ومادام الفقيه قال الغناء حرام لا تغني يا بنتي".
كان أبوها عبد الله الصانع قد طلّق أمها، ومن حين طلقها وهي تخدمه في البيت، وخارج البيت تجلب الماء من النبع، وتطبخ له، وتغسل ملابسه وتذهب إلى الجبل تحتطب، وكان يعتمد عليها في كل شيء. لكن الفقيه لم يكن يكتفي بأن يشكوها إلى أبيها، وإنما كان عند مرورها من جوار بيته يستوقفها ويوبِّخها، ويقول لها:
- ديننا يا منتهى يحرّم الغناء.. الغناء حرام.. لكن كلُّه من أبوك ما عرف يربِّيك".. ولكثرة ما كان يستوقفها ويوبخها كانت تتجنّب الطريق المستقيم، والمختصر، وتضطر في الذهاب والإياب إلى بيتها أن تلف وتدور حول القرية حتى لا تمر من أمام بيت الفقيه.
لكن الفقيه بعد أن توقفت عن المرور من أمام بيته، لم يتوقف عن التحريض ضدها، وكان كل صباح حين يسمع صوتها، وهي تغني يصرخ بكل صوته مناديا أباها عبد الله الصانع:
- "يا عبد الله أدِّب بنتك".
ومرت الأيام، والفقيه يشكوها لأبيها، ويستمر في الشكوى والأب يضربها، ويستمر في الضرب، لكن شعورا بالألم والندم كان يساوره بعد أن ينتهي من ضربها، وكثيرا ما كان يحدِّث نفسه قائلا بعد كل عقاب ينزله بها:
- "البنت عجماء أيش با يضرُّه ربنا لوغنت!! والفقيه ما له على منتهى بنتي!! كل البنات والنسوان في القرية يغنين ويتزَمَّلَيْن، وهو ساكت ،ولا يتكلم أيش معنى بنتي يزعل منها، ويشتكي بها، وهو داري أنها عجماء!!
لكنه رغم شعوره بالألم، وبالندم كان يعود إلى ضربها ليرضي الفقيه، أو ربّما ليرضي إله الفقيه، الذي حرّم الغناء.
وفي ذات جمعة، قال له الفقيه أَمامَ المصلين بعد خروجهم من صلاة الجمعة:
- "يا عبد الله أدِّب بنتك.. بكَّرتْ تغني من صبح الله وهي عارف أن اليوم جمعة".
وعندما عاد عبد الله الصانع من المسجد، بعد صلاة الجمعة، انفجر فوقها، وراح يضربها، ويوسعها ضربا، ومن شدة حقده على الفقيه، الذي كلّمه عن بنته أمام المصلين، ضربها بقسوة شديدة، حتى إنه بعد أن انتهى من ضربها أجهش بالبكاء.
في صباح اليوم التالي، استيقظ أهالي القرية على صوت منتهى، وهي تغني بصوت حزين أوجعهم، وجعل وجوههم، في ذلك الصباح، تغتسل بدموعهم، وأما الفقيه فقد راح من شدة غضبه ينادي أباها عبدالله الصانع، ويقول له:
- "يمين -يا عبد الله- لو منتهى بنتي، وتعصي كلامي اقتلها".
بعدئذٍ حبسها أبوها في البيت ولم يسمح لها بالخروج، ولمدة ثلاثة أيام بقيت محبوسة، وفي أيام الحبس تلك احتبست الأغنية بداخلها، وكل صباح -حين كان يحين وقت خروجها للنبع- كانت دموعها تسيل بدلا عن الأغنية، لكنها في اليوم الرابع -وقد سمح لها أبوها بالخروج- راحت وهي في طريقها إلى النبع تغني أغنية فرحة، جعلت القلوب ترقص فرحا، والشمس تشرق قبل موعدها، ويومها كان حديث أهالي القرية عن البنت البكماء، وعن أغنيتها التي جعلت الشمس تشرق قبل موعد شروقها، لكن الفقيه كان أكثر غضبا وأكثر تحريضا، وأكثر كراهية لهذه البنت البكماء، التي تتحداه وتتحدى أبيها، ويومها قال لأبيها عبد الله الصانع:
- "حاشا لله، يا عبد الله، أنك عبد الله، ولو أنك حقا عبد الله لكنت نهيت منتهى بنتك عن الفحش والمنكر".
ولشدة غضبه من بنته، أسرع عبد الله الصانع يجري إلى بيته، وعند وصوله ضربها ضربا هو الأعنف والأكثرة قسوة، حتى إن الدم انبجس من فمها وأنفها، وأقسم يومها بأنه سيقتلها إن هي عصته وغنت ثانية.
وفي صباح اليوم التالي، خرجت منتهى لجلب الماء، لكنها هذه المرة لم تذهب إلى النبع حاملة جرتها لتجلب ماءً للشرب، وإنما حملت تنَكَتَها وذهبت إلى بركة القرية لتجلب مياها للغسيل.
وفي طريقها إلى البركة، أجهشت بالغناء، وبدت -وهي تغنّي- كأنها تبكي أو لكأنها تودع القرية والناس والحياة، وتودع نفسها.
ويومها استيقظ أهل القرية على صوتها وهي تغني أغنيتها الباكية الحزينة، فكان أن دخلهم شعور بالحزن، ومن شدة تأثرهم انبجست الدموع من أعينهم، واستولى عليهم شعور بالكآبة.
ومما ضاعف من كآبتهم هو أن الشمس لم تشرق يومها، بل طلعت بدلا عنها غيمة معتمة من قاع الوادي، وفي ظهر ذلك اليوم شاع الخبر بأن فتيان القرية وهم يسبحون في البركة عثروا على جثة منتهى، وعرفت القرية يومها بأنها لم تذهب إلى النبع كعادتها، وإنما ذهبت إلى البركة، وهي تغني أغنية موتها، لكن منتهى -البنت البكماء- وهي تغرق في بركة القرية لم تغرق وحدها، وإنما غرقت معها أغنية الحيا