مقالات
حكاية المُسَفِّلة غيوم عالم (2)
كانت المُسَفِّلَةُ غُيُوْمْ عَالم تدرك بأن عليها لكيما تضمن حرية التنقّل بين العالمين وتمارس مهنتها كمُسَفّلة أن تحتفظ بعذريتها فلا تتزوّج ولا تدع أحدا يقترب منها باسم الزواج، أو باسم الحب، ولأنها جميلة كان هناك من يحوم حولها ظنا منه بأنها، وإن كانت ترفض الزواج، لن ترفض الحب، وكان أولئك الذين خابت آمالهم في الزواج منها يأملون أن يصلوا إلى بغيتهم عن طريق الحب، لكن غيوم، التي أوصدت في أوجههم باب الزواج، أوصدت كذلك باب الحب وباب العشق، ولم تسمح لهم أن يدخلوا إليها من أي باب، وبالرغم من كثرة المحبين وكثرة العشاق إلا أنها لم تحب ولم تعشق في حياتها سوى شخص واحد، لكنها، وبالرغم من أنها أحبته بكل جوارحها، كتمت وكبتت حبها وصبرت، ولم تعترف بحبها له وهو على قيد الحياة، ومات وهو لا يدري بأنها تحبه، لكن الحب الذي حبسته وكبتته وكتمته انفجر داخلها بعد موته على هيئة ألم وندم وشوق وبكاء ودموع، وراحت تبكي لأنها حرمت نفسها منه وحرمته منها، وكان من عادة المُسَفِّلة غيوم عالم أنها تعود من رحلاتها إلى العالم السفلي بأخبار تثير غضب الفقيه وأنصاره، وتدخل الفرح والمسرَّة إلى قلوب أهل الميّت، وكذا إلى قلوب أهل القرية.
كانت إذا قال الفقيه عن فلان، أو علان، من الناس إنه في النار تعود غيوم من رحلتها إلى العالم السفلي، وتقول لأهل الميت عكس كلام الفقيه، وكان كلامها لا يفرح فقط أهل الميت، وإنما يفرح كذلك أهل القرية، وأما الفقيه فكان ل ايغضب منها فقط، وإنما يغضب من أهل القرية الذين يصدقونها، لكن أهل القرية كانوا يحبونها، ويحبون سماع الأخبار التي تأتي بها من العالم السفلي، وكانت كل امرأة يموت زوجها، وكل أم يموت ولدها، وكل بنت يموت أبوها، تطلب منها أن تهبط إلى العالم السفلي وتأتي بأخباره.
ويوم مات الشاعر والزمار والمغني سعيد الفاتش، وبعد أن زفوه إلى المقبرة بالطبول والمزامير، ودفنوا مزماره معه، قال الفقيه يومها لابنته زهر الفاتش، ولكافة أهل القرية إن ملائكة سوف تنزل من السماء لتعذبه عذاب القبر، وإن مزماره الذي أوصى أن يدفن معه في قبره سوف يقوم ليشهد ضده.
وبعد أن سمعت زهر الفاتش ما قاله فقيه القرية عن أبيها انفجرت تبكي، لكنها، وبعد مرور أربعين يوما على وفاته، طلبت من المُسَفِّلة غيوم عالم أن تهبط إلى العالم السفلي لتسأل عنه، وعن صحة ما يردده فقيه القرية، وأنصاره.
وبعد عودتها من رحلتها تلك أخبرت زهر الفاتش، وأهل القرية بأن سعيد الفاتش يمرح ويلعب ويغني ويعزف بالمزمار، وقالت إن الكل يحبه، ويتحلق حوله لسماع أنغام مزماره، وبمجرد أن سمع الفقيه هذا الكلام حتى جنَّ جنونه، وراح يلعنها، ويلعن من يصدقها، ثم -وبعد مرور ثلاثة أشهر على عودتها من العالم السفلي- لاحظت أختها فازعة عالم انتفاخ بطنها، وحين سألتها عن سبب انتفاخ بطنها، قالت لها وهي محرجة منها: "أني حامل يا فازعة".
قالت لها اختها فازعة عالم وهي في حالة فزع: "كيف حامل يا غيوم!!؟".
وراحت فازعة تسألها ممن هي حامل! وهل هي حامل من إنسي، أم من جني؟! من رجل حي أم من رجل ميت؟!
قالت لها غيوم بأنها حامل من رجل ميت.
وازدادت فازعة رعبا من كلامها، وقالت تسألها: "حامل من ميت!! كيف!! قولي لي؟". وطلبت منها أن تشرح لها كيف حدث ذلك!!
قالت لها غيوم إن الذي حملت منه شخص كانت قد أحبته في الدنيا، لكنها كتمت وصبرت وأخفت حبها، وتمكنت من كتم شهوتها، وكبت رغبتها في الوصال، وبعد هبوطها إلى العالم السفلي ضعفت، وسلمته نفسها، واستسلمت له.
وحين سألتها أختها فازعة عن اسم الرجل الميت الذي أحبته وهو حي وحملت منه بعد موته؟!!
قالت لها غيوم: "سعيد الفاتش".
وفرحت فازعة حين عرفت بأن اختها غيوم حملت من ولي الله سعيد الفاتش.
وبعد أن انتفخت بطنها، وشاع خبر حملها، راح فقيه القرية والحاج علوان ووكيل الشريعة، حمود السلتوم، وغيرهم من أنصار الفقيه يتهمونها بالزنا، وبالكذب، ويقولون إن سعيد الفاتش يُعذّب في النار، ويستحيل أن تكون قد حبلت منه.
ولشدة ما كان الفقيه غاضبا منها اتهمها بالزنا، وراح يهدد بأنه سيذهب يشكوها للقاضي غالب التنكة -حاكم حيفان- لكن القاضي شاهر قال له:
- "الزنا يا فقيه سعيد يكون بين رجل حي وامرأة حية، وليس بين امرأة حية ورجل ميت".
وكان أن انقسمت القرية حول حمل المُسَفّلة غيوم عالم؛ البعض راح يلعنها، ويتهمها بالزنا، ويقول عنها "زانية"، والبعض الآخر راح يدافع عنها ويقول إن حملها من سعيد الفاتش دليل على أن الفاتش ولي من أولياء الله، وأما زهر الفاتش فكانت فرحتها مضاعفة، فرحت لأن أباها لم يعذَّب في قبره، ولم تنزل ملائكة لتعذِّيبه عذاب القبر، وفرحت أكثر بخبر حمل غيوم، واعتبرت حملها أعظم هدية تقدّم لها من أبيها الميت؛ ذلك لأن زهر الفاتش كانت ابنته الوحيدة، وكانت بعد موته قد شعرت بمرارة الفراق، وكثيرا ما راحت تعاتبه؛ لأنه مات وتركها لوحدها، لكنها بعد عودة غيوم من العالم السفلي وهي حامل أدركت أن أباها لم ينسها، وأنه من حبه لها بعث لها بهدية عظيمة لم تكن تتوقعها، وكانت ما تنفك تقول لنساء القرية:
- "من حبه لي أرسل لي أخ من الدنيا السفلى".
وكان فرح زهر الفاتش يتعاظم كلما تعاظمت بطن غيوم وازدادت انتفاخا، لكن الفقيه وقد أبصر تكوّر بطنها لم يكتفِ بلعنها، وإنما ذهب يشكوها للقاضي غالب التنكة حاكم حيفان، ومن بيت الحكومة عاد بصحبة ثلاثة من العسكر، أرسلهم الحاكم للقبض عليها.
حين راح القاضي غالب يحقق معها، ويسألها عن الفاعل، قالت له: "سعيد الفاتش".
قال لها: "سعيد الفاتش ميت -يا غيوم- وما فيش مَرَة تحبل من ميت".
لكن المُسَفِّلة غيوم عالم أنكرت أنها حبلت من رجل حي، وأصرت على كلامها، وهو ما أثار غضب الحاكم، فكان أن أمر بجلدها مئة جلدة، وبعد أن انتهى الجلاد من جلدها، أمر القاضي غالب بإعادتها إلى الحبس، وفي اليوم التالي أعاد عليها السؤال، وسألها عن الفاعل، فأعادت على مسامعه الكلام نفسه، فأمر الجلاد بجلدها مئة جلدة، وإعادتها إلى الحبس، وفي اليوم الثالث حين أمر بإخراجها إلى الساحة تدخلت زوجته "شمس الحكومة"، ومنعته من مواصلة التحقيق معها، واتهمته بأنه يجلدها حقدا وحسدا؛ كونها حبلت من رجل ميت، فيما هو الحاكم عجز عن نفخ بطنها، وقالت له: "سعيد الفاتش وهو ميت حبَّل غيوم عالم، وأنت الحاكم ما قدرت تحبلني".
وطلبت منه أن يطلق سراح غيوم، ويتركها تعود إلى قريتها، وكان أن رضخ الحاكم لها، وفعل بما أمرته، وأطلق سراحها، وعند عودتها إلى القرية فرحت زهر الفاتش بعودتها سالمة، وراحت تعتني بها، وتقدّم لها أفضل الطعام، وتنتظر بشوق قدوم أخ لها، لكن لا أحد يدري ما الذي حدث بعد ذلك، بعضهم قال إن المُسَفِّلة غيوم ماتت أثناء المخاض بعد أن تعسرت ولادتها، والبعض الآخر قال إنها لم تمت، وإنما هبطت إلى العالم السفلي لتلد ابنها، ولم تَعُد.