مقالات
خيانة بطل "فردان"
كان فليب بيتان يرقى إلى مرتبة بطل قومي لدى الفرنسيين قبل أن يرتكب خطيئة جسيمة كلفته كل تاريخه.
تشكلت شخصيته في الميدان كقائد عسكري، وذاع صيته على وقع واحدة من أطول المعارك الحربية في التاريخ الحديث وأكثرها قسوة ودموية.
برز الرجل كقائد عسكري ميداني في الجيش الفرنسي الثاني، عندما أُسندت إليه مهمة مواجهة الهجوم الألماني في الحرب العالمية الأولى على التلال الحصينة في "فردان" غربي فرنسا.
تُصنّف هذه المعركة باعتبارها المعركة الأطول في التاريخ الحديث، فقد بدأت في 21 فبراير 1916 وانتهت في 15 ديسمبر من العام نفسه.
كانت "فردان" ساحة لمعركة المدفعية أولاً، قبل أن تغدو معركة دامية بين المشاة، إذ تذكر بعض المصادر أن الطرفين الألماني والفرنسي تبادلا السيطرة على بعض المواقع 16 مرة خلال المعركة الطويلة.
في هذه المعركة، تتحدث العديد من المصادر عن مقتل ما بين 700 ألف إلى مليون جندي من الجانبين.
عُرف "فيليب بيتان" بخططه الدفاعية البارعة، وقد كسب المعركة بصموده واندحر الهجوم الألماني بعد أن صنع الجيش الفرنسي الثاني ملحمة تاريخية.
بنظر المؤرخين تُعد معركة "فردان" انعطافة مهمة في مسار الحرب العالمية الأولى التي انتهت بهزيمة الألمان.
عقب هذه الحرب سيلمع اسم فيليب بيتان، وسيُمنح لقب مارشال بعد عامين من المعركة، وسيُعين قائداً عاماً للجيش، ثم سيُنتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية في "مجمع الخالدين"، بين أسماء محدودة، ليغدو وزير الحربية الفرنسية سنة 1935.
على أن الأحداث ستمتحن هذا القائد الفرنسي الكبير لاحقاً بما لم يكن ربما يخطر على باله، فالرجل الذي أوقف الزحف الألماني على بلاده في "فردان"، وساهم في خسارة ألمانيا للحرب العالمية الأولى، هو نفسه الذي سيقرأ بيان استسلام فرنسا أمام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وقد سيطرت على باريس خلال ثلاثة أيام فقط من الهجوم النازي على الأراضي الفرنسية!
لم يكن بيتان ضالعاً بأي صورة في هزيمة فرنسا قبل هذا التاريخ، ولا في إسقاط الدولة الفرنسية في قبضة أعدائها. كل ما فعله أنه استلم الهزيمة كاملة، وتقبّل أن يكون رئيس الحكومة التي يتعيّن عليها إعلان الاستسلام.
حتى في بيان الاستسلام، الذي بدا واقعياً بالنسبة لرجل أراد أن يخبر الفرنسيين بحقيقة هزيمتهم، تحدَّث عن بطولات الجيش الفرنسي ومآلات المعركة في مختلف الجبهات، قبل أن تُطبق ألمانيا النازية قبضتها على باريس، ووصف الألمان بالعدو.
خاطب الفرنسيين قائلاً: "لقد أتت الهزيمة من الانحلال، فدّمرت روح الملذات واللهو ما شيدته روح التضحية، لذلك فإني أدعوكم قبل كل شيء أن تنهضوا بأخلاقكم".
لم يكتفِ بذلك، بل راح يخاطبهم ليبعث فيهم روح النهوض والعودة: "أيها الفرنسيون، إنكم لقادرون، وإني أقسم لكم أنكم سوف ترون فرنسا جديدة تنبعث من حرارة إيمانكم".
ربما كان خطاباً منطقياً، لكن جنرالاً شاباً اسمه ديغول سيرفض هذه اللغة المستسلمة، وسيوجّه رداً نارياً إلى من يُفترض أنه كان قائده. عبر الإذاعة خاطب ديغول المارشال بيتان قائلاً: "في ساعات الخجل والغضب هذه، يجب أن يرتفع صوت واحد للرد عليك".
ذكّره ديغول بمسؤولياته السابقة كرئيس للهيئات العسكرية والحربية، مسؤولياته التي كانت تفرض عليه إصلاح أي خلل قائم ولم يفعل.
ثم خاطبه بلغة قاسية: "إن قبول العبودية لم يكن يتطلب بطل (فردان)، بل إن أي إنسان كان يستطيع فعل هذا".
سأل ديغول بيتان: "كيف تنتظر من فرنسا النهوض مرّة أخرى وهي تحت أحذية الألمان الثقيلة، وأحذية الرقص الإيطالية؟".
بعد التأكيد على مواجهة الاحتلال النازي والانضمام للحلفاء، قال ديغول: "ألا إن فرنسا ستنهض مرّة أخرى في الحرية والنصر".
كان بيتان يحظى بتأييد الفرنسيين بعض الوقت، لكن الألمان لم يمهلوه، حتى فرضوا عليه بنوداً جعلته مجرد واجهة فرنسية لاحتلال ألماني، في 'فيشي'، عاصمته المؤقتة جنوب فرنسا، وكان يدفع ما يشبه الجزية قرابة نصف مليار فرنك فرنسي.
بعد هزيمة ألمانيا النازية وتحرير فرنسا، جرى توقيف غالبية نظام "فيشي بيتان"، ومحاكمتهم بتهمة الخيانة العظمى والتعاون مع العدو النازي.
حُكم على فيليب بيتان، "بطل فردان"، بالإعدام، واستخدم الرئيس شارل ديغول، بطل تحرير فرنسا، صلاحياته لتخفيف الحكم إلى المؤبد.
كانت العقوبة مستحقة للمارشال العجوز، ولم يشفع له سجله الوطني المشرف ولا تقدمه في السن بأي عفو، فقد مات في السجن عام 1951 عن عمر ناهز 95 عاماً.
لم يكن بيتان رئيساً فاسداً للدولة في عهد سابق للهزيمة، لم يتلاعب بحروب فرنسا الداخلية والخارجية، ولم يُهيئها بطريقة حكمه الفاسدة للتمزّق الرهيب. لم يُقوّضها من الداخل بصناعة الأزمات وتمزيق نسيجها الوطني بإشعال الحروب البينية، ولم يكن يفتح مخازن جيشه لتمويل الاقتتال الأهلي بين "القبائل الفرنسية"، ولم يُدمّر اقتصادها حتى وضعها على أعتاب الدولة الفاشلة.
لم يستدعِ الدول الأجنبية للتدخل في مشكلات البلاد الداخلية، ولم يتحالف علناً أو سراً في أي وقت مع أعداء فرنسا، قبل الاستسلام، ولم يتخلَّ عن أجزاء من أراضيها لآخرين في اتفاقيات مجحفة بمقابل.
رغم خضوعه واستسلامه للألمان، لم يُضبط بيتان وهو يقول إنه تحالف مع ألمانيا أو اعتنق عقيدتها "الطائفية" النازية، لم يُشاركها القتل ولم يُجيّش في حروبها، رغم أنه كان يمينياً لا تروقه فكرة الجمهورية.
ربما تعاطف بعض الفرنسيين مع المارشال بيتان بشكل محدود نظراً لكبر سنه ولسجله البطولي الوطني السابق، لكن ما هو محفوظ في التاريخ، وفي ذاكرة القانون، أنه كان خائناً لفرنسا.
نستطيع أن نقول إنه لم يصنع الخيانة ولم يُخطط لها، وأنه تعامل معها باعتبارها نتيجة للهزيمة التي لم يصنعها. لكن ذلك لم يكن مدعاة لتفهّم الخيانة أو غفرانها في الوعي الجمعي الفرنسي؛ لأنها ليست مسألة شخصية.
في الخيانات الزوجية وفي العلاقات الشخصية فقط يمكن الغفران واستئناف الحياة، مع أنها تترك جرحاً لا يشفى.
أما العلاقة بالأوطان فلا يحكمها الإخلاص في السرير، ولا الاعتبارات والمصالح الشخصية، بل المبادئ والقيم والمصالح الوطنية العليا.
خيانة هذه المُثل مجتمعة، تُحدد مصير بلد وشعب وأمّة، وليس فرداً أو عائلة. خيانتها دمار رهيب، وإهدار لمقدرات، وسرقة أعمار أجيال كاملة في الشتات والمنافي والتشرّد والجوع.
الخيانة هنا يترتّب عليها مصائر ووجود، وهي في أقل دلالاتها إذْن كامل ومشاركة في استباحة الوطن وتهديم أسواره وحصونه من الدّاخل، ليسهل لأعدائه صناعة مصيره الذي يرغبون به.
إن الكارثة، التي يعيشها اليمنيون منذ 21 سبتمبر 2014، لم تكن ناجمة عن أخطاء أو سُوء إدارة، بل هي المعنى الفعلي للخيانة المخططة والهزيمة المصنوعة بتدبير علني ومتبجح، لكنها، في بلد لا يُغادر ماضيه إلا ليعود إليه، تغدو مثالاً على شجاعة المُجرم وفرادة قيادته!
تجريم الخيانة كواقعة تاريخية في اليمن لا يتعلق بالماضي، بل بحماية المستقبل، وعدم السماح بإعادة صياغة الظروف والأوضاع، وحتى الأشخاص الذين عبّدوا الطريق إلى قعر هذه الهاوية والمتاهة التي لا تنتهي.