مقالات
رواية (العجوز والبحر) وموقف الحزب (سيرة ذاتية) -٨-
في صباح اليوم التالي، نهضتُ من النوم واغتسلتُ، وغيّرتُ ملابسي، وبقيتُ فوق سريري، ولم أذهب إلى العمل. ونفس الشيء، لم تذهب الصيادة تغريد يومها إلى البحر، وظلّت في العُشّة.
وفي الصباح، حين أحضرت لي الصبوح ورأتني وأنا بكامل صحتي، وبكامل نظافتي، فرحت، لكني كنتُ خجلانًا منها، ولديّ شعور بالذنب، كوني تسبّبتُ في توقفها عن الصيد ليومين متتاليين.
وعندما لاحظت خجلي، قالت لي إن أي شخص يركب البحر لأول مرة لا بد أن يُصاب بالدوار والغثيان، ويحدث له ما حدث لي. وعندما رحتُ أعتذر لها، وأطلبُ منها أن تسامحني، ضحكت من سذاجتي، ومحت بضحكتها اللذيذة كل تلك المشاعر السلبية، بما في ذلك شعوري بالذنب.
ولما سألتني عمّا إذا كنتُ ما زلتُ راغبًا في الذهاب معها إلى البحر؟
قلتُ لها: لااااااا، لا...
قلتُها بصوت عالٍ مفعم بالخوف. وضحكت تغريد من خوفي، وقالت إن الأشخاص من أمثالي، الذين يعرفون ما تقوله الكتب، يخافون من البحر. ولو أنهم يعرفونه، ويعرفون ما يقوله، لما خافوا منه.
وكنتُ أشعر، وهي تكلّمني عن البحر، بأنني أُميّ مقارنةً بها. وفي تلك الأيام، كنتُ أُمّيًا مرتين: مرة لأنني لا أعرف البحر الذي تعرفه تغريد، ومرة لأنني لم أكن قد قرأتُ شيئًا عنه.
وبسبب قرب العُشّة من البحر، وقربي من البنت تغريد التي تذهب إلى البحر كل يوم وكأنها تذهب إلى المدرسة، ذهبتُ أبحث في المكتبات عن كتب لها علاقة بالبحر. وبالصدفة، وجدتُ في "مكتبة الثقافة" في "باب مشرف" قصةً بعنوان: (العجوز والبحر) لـ "أرنست همنغواي"، لكني يومها لم أكن أعرف من هو همنغواي هذا، ولم يسبق لي أن قرأت له، أو قرأت عنه، أو حتى سمعت به. فقط فهمتُ من مقدمة المترجم أنه أديب أمريكي، نال جائزة نوبل للآداب. وحتى جائزة نوبل لم أكن قد سمعتُ بها.
وفي المساء، وقد عدتُ إلى العُشّة، رحتُ أقرأ القصة على ضوء الفانوس. شدّتني القصة، وأعجبتني، ومما جعلني أتفاعل معها وأحس بها، هو أنني كنتُ في قرية صيادين، وفي عُشّة أم البنت تغريد التي كنتُ قد وقعتُ في حبها.
وفي ليلة الخميس، ونحن سامرون في عشّتي، حكيتُ لها ولأمها قصة "العجوز والبحر"، ورحتُ أبذل قصارى جهدي لأضعها وأمها في جو القصة. ولأن القصة تحكي عن صياد، فقد راحتا تصغيان لي، وتتفاعلان مع القصة، وتتعاطفان مع الصياد العجوز "سانتياغو"، الذي راح يخوض صراعًا مع سمكة ضخمة وعملاقة. وعندما نجح في صيدها، فرحتا فرحًا عظيمًا، وتعاظمت فرحتهما عندما قلتُ لهما إن السمكة التي اصطادها كانت أكبر سمكة يصطادها في حياته، وأكبر من أن يتّسع لها القارب.
لكن فرحتهما سرعان ما تبخّرت، عندما رحتُ أحكي لهما عن رحلة العودة، وعن أسماك القرش التي راحت تهاجم السمكة المربوطة بعرض القارب. وفي نهاية القصة، عندما عرفتا أن السمكة وصلت إلى الشاطئ وهي عبارة عن هيكل عظمي، حزنت الأم حزنًا شديدًا على "سانتياغو" المسكين، الذي خرج من معركته خاسرًا. أما البنت تغريد، فقد اعتبرته بطلًا رغم خسارته، ولشدّة إعجابها بجسارته، حكت قصته لبنات وزوجات الصيادين في القرية، وبعد أن حكتها لهن، شعرن بحب وتعاطف شديدين مع الصياد العجوز "سانتياغو"، وبدا لهن كما لو أنه واحد من صيادي القرية.
وبالنسبة لي، فمن شدّة إعجابي بالقصة، رحتُ أروّج لها بين الرفاق الخمسة، وأكلمهم عنها، وعن بطلها سانتياغو، ولكثرة ما رحتُ أمدحها، استعاروها مني، وقرأوها، وأُعجبوا بها.
وفي الاجتماع الحزبي، وهم يعيدونها إليّ، راحوا يكلمون المسؤول الحزبي عنها، ويُثنون عليها، ويقولون له إنها قصة رائعة ومؤثرة.
وعندما سألني عن كاتبها، قلتُ له إنه أمريكي، وشعرتُ أنه امتعض وانقبض بعد أن ذكرتُ جنسيته. لكنه عاد وسألني عن موضوع القصة، وحول ماذا تدور؟!
فرحتُ أحكي له، وفي ظني أنه سيُعجب بها، لكنه، وقد وصلتُ إلى النهاية، لم يستطع أن يكتم غضبه، وقال بنبرة حادة إن عودة الصياد العجوز "سانتياغو" من البحر بهيكل سمكة عظمي دليل على أنها رواية عبثية، وعدمية، ولا قيمة لها، ولا تستحق أن تُقرأ، ولا يجوز قراءتها، أو قراءة مثيلاتها من الروايات العدمية التي تُبشّر باليأس.
وأردف قائلًا إن الرسالة التي أراد الكاتب الأمريكي إيصالها لنا في نهاية قصته هي أن نضالنا من أجل إقامة مجتمع اشتراكي نضال عبثي، لا معنى له ولا جدوى منه.
وكان بكلامه هذا قد راح يُكرّر بعض ما قاله في اجتماعات سابقة عن الوجودية، لكنه هذه المرة وجد في قصة "العجوز والبحر" مدخلًا لاستعراض ثقافته الماركسية، وراح يُحدثنا عن الفرق "بين الأدب الوجودي الرجعي، والأدب الماركسي الثوري"، وكيف يجب أن نُفرّق بين روايات وجودية فيها الأبطال سلبيّون، يناضلون بمفردهم ويعودون من معاركهم مهزومين، وبين روايات اشتراكية فيها الأبطال إيجابيون، يناضلون بشكل جماعي، ويعودون من معاركهم منتصرين.
وبعد كلامه هذا، لذنا جميعًا بالصمت، واعترانا شعور بالذنب. وعندما حان وقت النقد والنقد الذاتي، راح المسؤول الحزبي ينتقدني، لكوني غرّرتُ برفاقي وأغريتُهم بقراءة رواية تتعارض مع خطّ الحزب ومع مفهوم الأدب كما يتجلّى في الواقعية الاشتراكية.
وبعد أن انتقدني، انتقد الرفاق الخمسة، ثم راح كلّ واحد منهم ينتقد نفسه. ولأنني صاحب القصة، لم أكتفِ بنقد نفسي، وإنما قلتُ للمسؤول الحزبي، في محاولة مني لامتصاص غضبه، إنني بعد خروجي من الاجتماع، سوف أُلقي قصة "العجوز والبحر" في أقرب برميل للقمامة.