مقالات
سلطان الصريمي.. شاعر الإنسان اليمني
عادةً أكتب المقال، وبعد أن يكتمل أقرأه مرة أخرى وأستنبط له عنوانًا. اختلفت الحال هذه المرة، إذ حددت العنوان مسبقًا.
استقرت في ذهني عبارة سامي غالب في رثائه للشاعر الكبير سلطان الصريمي، بعد وفاته في أواخر العام الماضي: "شاعر الإنسان اليمني".
جملة بدت لي كأنها خلاصة لا يمكن تجاوزها. إذا أردنا اختيار عنوان جامع لحياة الصريمي، لا فحسب لمقالة تُكتب عنه، لن نجد جملة أكثر تكثيفًا منها.
كتب سلطان الصريمي أشعاره من وحي حياة اليمني العادي الذي لا يرتدي أقنعة النخب الزائفة، ولا يخفي ذاته الحقيقية بغموض الادعاء والتواءاته. لغته بسيطة وممتلئة بالمعنى. يُلامس شعره شغاف قلب اليمني؛ في قرى البلاد، وفي مدنها التي امتلأت بالأمل والشباب القادم من كل بقاع البلاد، سهولها وسواحلها، جبالها ومناطقها الملقاة في زوايا منسية وجدت متنفسها في الحياة بعد ثورتي سبتمبر وأكتوبر في النصف الثاني من القرن العشرين.
يجمع شعره بين لغة عامية يستخدمها الناس في حياتهم اليومية، وحس شعري رفيع. ينتقي من لغة الناس اليومية ما يعبّر عن فكرته، يُصفّيها، يُبلورها، ويضعها في نص شعري مكتمل له طابعه "الصريمي" الخاص.
يعطي الكلمات نغمًا خفيًّا. يلتقط المفردات مع تردداتها الموجية، كأنه يضع قصيدته بلغة تمتزج فيها الكلمات مع نبضها الموسيقي الذي يمنحها قوة الحياة وامتلاءها:
"حنين القلب يا سلمى
تغنيه العيون
بصوت البُن والكاذي
وهزات الشجون"
غنّى له كبار الفنانين اليمنيين، لكن الفنان عبدالباسط عبسي تماهى مع شعر الصريمي، وكان الأكثر إحساسًا به، ووعيًا بمعانيه، وقدرة على ابتكار الألحان الملائمة للغته وتراكيبه اللفظية وإيحاءاته الجوانية.
شكّلا معًا ثنائيًّا امتزج في نغمة واحدة تعزف الحُب وشجونه، كلما تلاقت خفقات الشاعر مع أوتار الفنان:
"مليح حالي قامته تجنن
ونظرته بين الضلوع تحجن
شوقي يغني له وهوه يلحن
فتن فؤادي بالهوى مُحين"
هذه الوفرة في المعنى والنغمة تُميز قصائده الشعبية الملحونة على تنوع أغراضها: الحب والسياسة، الحنين والحزن، الأرض والغربة.
الصدى الموسيقي للغة حية من لحم ودم وأحاسيس نابضة بالحياة، جذب الفنانين ليحولوها إلى أغانٍ.
تجد نكهة الصريمي المميزة في أغاني الحب والحنين، الأرض والاغتراب، مثلما تلتقي بها في الأغنية الوطنية وشفراتها السياسية:
"نشوان لا تفجعك خساسة الحنشان، "اشتي شاسافر بلاد ما تعرف إلا الحُب"، "يا خاضبان وردك جماله ثاني"، "لو لاح بارق أو تبسم الجو يظهر حبيبي من مباسم الضو".
في "تَليم الحب"، يتجلى الصريمي بصوت أيوب طارش، في أغنية من أجمل معزوفات الحب في الغناء اليمني:
"تليم الحب في قلبي تذكرني بأيام الهثيم
تذكرني دوادح حبنا الغالي ودخداخ النسيم"
يناجي بها أيوب طارش حبيبًا بعيدًا، بنغمة أليفة وخافتة. العذوبة هنا ليست في الذكرى واللقاء البعيد، بل في شجن شفيف، يُذيب قلب المحب ويداويه في آنٍ واحد.
-سياسي ونقابي وبرلماني.. لكنه لم يفقد ذاته كشاعر
شاعر ونقابي في اتحاد الأدباء، وسياسي منتمٍ لحزب يساري، وبرلماني في مجلس النواب.
عرف السياسة من بوابة انتمائه لحياة الناس العاديين وقضاياهم وطموحاتهم، مظالمهم وحنينهم، قسوة حياتهم وحلمهم بوطن كريم يتسع لهم ولا يضيق بأحلامهم وطموحاتهم.
كان سلطان الصريمي في قلب الحياة السياسية كمنتمٍ لليسار "الحزب الاشتراكي"، ولكن المسافة بين السياسة والحياة كانت عنده أقصر من أن تعزله عن الناس وحياتهم التي تبدو معتادة، لكنها فائقة الثراء، ولا يدري بمخزونها الجمالي سوى أديب ينتمي لهم وقادر على التقاط ترددات أحاسيسهم.
هذا ملمح مهم في سيرة شاعر جمع بين الأدب والانتماء السياسي والحزبي، والمشاركة السياسية كنائب منتخب في أول برلمان يمني بعد تحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990.
معادلة صعبة يفشل فيها كثيرون، لكن الصريمي تعددت اهتماماته دون أن يفقد ذاته في الالتزام الحزبي، وما يفرضه من ولاء سياسي وأيديولوجي.
أتذكر أن لقاءً جمعني بالفنان هاشم علي في تعز في فترة صعود سلطان إلى البرلمان. كان هاشم علي فنانًا تشكيليًّا وحكيمًا وفيلسوفَ حياة، يزوره الأدباء والمثقفون، وكنا نتعلم من صمته كما من آرائه وفنه.
قال بصوته الهادئ الممتلئ:
"مكانه القصيدة، لا البرلمان".
لكن الحزب رأى في شعبيته قوة انتخابية، ودفع به، وفاز.
كان الناس يشعرون أن قصيدته تمثلهم. وعندما ترشّح للبرلمان، صوّتوا له كأنهم يصوّتون لأنفسهم.
نقابي، برلماني، قيادي حزبي.
رغم تشابك هذه الأدوار، لم يتنازل عن صوته الشعري، ولم يغرق في الاجتماعات الحزبية. البرلمان أيضًا لم ينجح في ابتلاعه.
لا شيء من هذا زاحم سلطان الشاعر أو غطى عليه. طُويت كلها وبقيت قصائده الساكنة في نغمات الفن، وذاكرة الوطنية اليمنية، وفي أرجاء الأرض اليمنية، قراها ومدنها ورائحة أرضها التي ألهمته الشعر والانتماء.
واليوم، يعود سلطان الصريمي بأعماله الكاملة، كما أحبّ أن يكون: شاعرًا لا حواجز تفصله عن الناس، وتصل أعماله إليهم بضغطة زر على رابط في شاشة التصفح.
هكذا، بدأت حياة الشاعر بعد رحيله؛ بدواوينه الثمانية التي جُمعت أخيرًا في مجلدٍ إلكتروني، ليظل صوته حيًّا في ذاكرة اليمنيين وقلوبهم.
جهد شخصي يستحق التقدير، نهض به نجله غسان الصريمي، والشاعر الشاب المتميز يحيى الحمادي الذي صحّح وراجع وأحاط التجربة بمحبة عميقة، فجاءت الدواوين الثمانية متاحة لمن يريد أن يسترجع ما عاشه مع قصائده المغنّاة، وينصت لصوت الإنسان اليمني، كما كتبه بصدق وشجن لا يشبهه فيه أحد.
هذا العمل يقول لنا ببساطة: إن جمع تراث المبدعين ليس مستحيلاً إذا توافرت المحبة والنية، وإن الكلمة التي وُلدت من الناس تعود إليهم، مجانًا، بلا قيود، لتصير في مكتباتهم مرجعًا، مثلما سكنت في وجدانهم نغماتها، واستقرت في ذاكرتهم كلماتها، وتمازجت مع تجارب حياتهم معانيها.
-ثم ماذا بعد؟
عاش سلطان الصريمي حياته كما كتب قصائده الجميلة: بشيء من العفوية، بشيء من الألم، وبيقين محب حقيقي آمن بأن الكلمة يمكن أن تكون لمسة حانية تجبر القلب، وجسرًا للمحبة، ومنجزًا إبداعيًّا يُضيف صفحة متميزة في ذاكرة اليمن وهويتها الثقافية.
رحل سلطان الصريمي وترك لنا خفقات روحه بيننا.
كلماته تنساب الآن من ذاكرة قلب سكنت فيه قصائده المغنّاة، وحفظها جيدًا في مفتتح إدراكه للحياة، حين كان بإمكان الأغنية أن تحلّق بالروح خارج الزمان والمكان.
ترتفع نغمته بصوت الفنان عبدالباسط عبسي لتطغى على ما عداها:
"أذكرك والسحايب يغمزين للشعير
والبلابل تغنيَّ لحن ماطر غزير
والقليب يا حبيبي من فرحنا شا يطير
أذكرك والأسى هد قلبي هدود
والفؤاد ما نسى مبسمك والخدود
في الصباح والمسا منتظر لك تعود"