مقالات
شخص ما
قبل أيام معدودة، دخلت فنانة فرنسية في جدل مع جمهورها حول اليمن.
كتب إليها أحدهم معلقًا: مدام فانيسا باراديس، تبرُع واحد منكِ يمكن أن يطعم البلد بأكمله.
وقال آخر: فلتبدأ هي بالتبرع بالملايين ثم سنرى، أتساءل كيف يشاهد هؤلاء الفنانون الذين يتلقون أجورًا خيالية أنفسهم في المرآة كل صباح.
كانت باراديس قد شاركت في إعلان مدعوم أمميًا، قالت فيه: " إن التبرع لا يستغرق سوى دقيقة واحدة، وتلك الدقيقة يمكن أن تنقذ حياة شخص ما في اليمن".
بالنسبة للعالم، اليمن هو شخص ما يحتاج من ينقذه، لكن هذا الذي لا يحمل حتى اسمه، كان يومًا يمتلك حلمًا كبيرًا يغير به قدره.
أن يصبح مرئيًا للعالم، لكنها بدت كما لو أنها مغامرة في واقع مضطرب.
في الثالث من نيسان/ أبريل 1917، تجمع حشد لاستقبال قطار قادم من هلسنكي، كان على متنه شخص ما، حيّا جمهوره بخطاب دعا فيه إلى الإطاحة بالحكومة الروسية -وبعد أشهر جعل ذلك يتحقق وتغيّر العالم.
كان يعيش خارج روسيا لأكثر من عقد من الزمان، كان معروفًا بأنه منظّر على هامش المجتمع السياسي الروسي كما وُصِف في مقال نُشر في مجلة أيون لديفيد بوتر.
بعد سنوات، تمكن الثوار من إلغاء سمة الفشل ونيل ما أرادوه، وتوجهت الأضواء نحو الوجه الذي حمله القطار وقد عرّف العالم عن نفسه، فلاديمير إيليتش لينين.
كانت تجربة مريرة دفع الملايين حياتهم ثمنًا لها، لكنهم ظلوا يعرّفون بأنفسهم في كل محفل أنهم أرادوا أن يدير العامل المفتاح ويقبض الأجر دون أن يقف خلفه من ينتظر الريع.
كافح ذلك النظام عقودًا طويلة، لكن "عند تمام الساعة 7:32 من مساء يوم 25 كانون الأول/ ديسمبر 1991، أُنزل العلم السوفياتي فوق الكرملين، وحل مكانه العلم الروسي لما قبل الثورة، المكوّن من خطوط أفقية بيضاء وزرقاء وحمراء.
كانت تلك لحظة بالغة الأهمية، ولكن لم يشهدها سوى حفنة من الأجانب ومحارب سوفياتي قديم غاضب في الساحة الحمراء". بعد 30 عامًا من تلك الحادثة جلس فتى في العقد الثالث من عمره يقرأ تلك اللحظة ويتفكر فيما آلت إليه الأحداث.
كان مراد العريفي، وهو أحد الذين وثّقوا نشوب ثورة الحادي عشر من فبراير/ شباط 2011 يبحث عن المفارقات في أحداث شكلت التاريخ، ولكن الحصول على نتائج هو أعقد ما في الأمر.
يريد الناس نتائج فورية، يتركون أرضهم إن لم تثمر أسرع مما توقعوا، يهجرونها وإن كانت كل ما لديهم، سيذهبون لكسب قوت يومهم لدى الغير، وتلك سنة الحياة ودورتها، ومن يريد منهم الانتظار فهو معرض لإلقاء الحجارة واللؤم طوال العام.
كتب منصور راجح، وهو صحفي سُجن سنوات طوال في معتقل صالح، الرئيس السابق، مقترحًا عودة الناس إلى أراضيهم في الريف، وترك المدن.
لم يحظَ مقترحه بغير نقد بسيط "أنت تعيش في الخارج"، هكذا خُوطب واحد من أقدم معارضي النظام، ومن دفع جل عمره ثمنًا، وما يزال منفيًا في بلد بعيد.
هو طرح مقترحًا عليه أن يبدأه بنفسه، هذا هو المنطق السائد!
وان كان هذا المقترح قد ادار عقارب الساعة في بلدان عدة ودفعت الصين في ثورتها الثقافية بالملايين نحو البوادي ثم كرر الامر في ربوع كثيرة لكن الثمار التي جنيت عقب ذلك محت المأساة التي حلت بما عرف بأكبر هجرة في التاريخ .
خرجت في ثورة، حلمت، فكرت، شعرت بالظلم، لم تفكر في تبعات ذلك، كان عليك إما أن تموت أو تموت.
هذا هو النمط سريع الاشتعال، هذه هي الفكرة التي تعبر القارات والدول.
حين استقر تشي جيفارا موظفًا خاطبته أعين الناس من حوله.
لم يؤمن به أحد إلا ممسكًا بندقيته ويركض، مهّد الجميع له طريق أن يكون ثائرًا بلا توقف، مقاتلًا بلا انتهاء.
حتى شريكه في النضال يسّر له الركض خارجًا إلى أن وصل وسط غابة في بوليفيا، وهناك قُتل بأيدي شخص ما.
تقول الحكاية المنشورة في لوبوان الفرنسية، إنه عند الخامسة فجرًا، أحاط ألفا جندي بوليفي بالمعسكر الكوبي في الوادي الذي كان يقيم فيه جيفارا ورفاقه، حينها قال تشي لرفاقه: لا أعرف لماذا لكنني أعتقد أننا وصلنا إلى المعركة الأخيرة.
علقت صوره في أنحاء وأذهان العالم، لكنها لم تحيل بينه وبين الرصاص، كانت تلك واحدة من تجارب الإنسانية في البحث عن النجاة، ورؤية شمس الغد.
تجارب تتكرر مئات المرات في أنحاء مختلفة من الدنيا، لا أحد يمتلك ساعة لإيقافها أو الحؤول دون حدوثها.
تجارب تكتمل وأخرى تستعيد أنفاسها وغيرها تُخنق بأيدي من قام بها وبأيدي سواهم، لكنها تبقى محاولات، وحب الإنسان لإلقاء الحجارة في البركة مهما كانت المياه مستقرة لن يتوقف.
حاول اليمني رفع صوته في وجه من حكموه دائمًا؛ اعتلى جبلًا وأعلن تمرده قبل أن يلاحقه سخط أقرب الناس إليه، ويسمونه بما ليس فيه، ثم يقولون إن جدب الوادي بسببه.
لكنه قال ورفض وأصبح الواحد حشدًا، وحاول تشكيل ثورة في كل طريق.
قبل السادس والعشرين من سبتمبر لم يكن الناس في سبات، كانت المحاولات تقام ويُنقلب على من قام بها، ويصفق الحشد لقطف رأس وهو ممتلئ بحبهم.
وقبل الرابع عشر من أكتوبر لم يكن القبول بالواقع هو الحل كان المرجل يغلي داخل أنفس كثيرة.
ثورة سبتمبر ظلت تحاول الوقوف عقودًا، وكلما طعنها أحد، سألته إن كان يحمل شاشًا.
قال أول وزير خارجية بعد الثورة في مقابلة مع قناة السعيدة، محسن العيني، إنه كان يدرس في العراق وكان الشباب في مصر (شباب ثورة سبتمبر في الخارج) متحمسين زيادة، أصبح من يمثلهم متحمسين زيادة كما قال، فذهب إليهم عقب تعيينه، وقال لهم: كلنا إخوة نحن والسابقون.
وحين دخل إلى عبدالناصر في القاهرة، كان أول أمر فتحه معه، أن شكا إليه مدير مكتبه، بأنه لم يعامله بصورة جيدة، كانت تلك تفاصيل تركض في ذهن من حملوا الرايات.
قال أيضًا إن من قامت الثورة ضده كان "جواد" بالمعنى الدارج للكلمة، أي أنه لم يكن يقصد اعتقال شعب وإخراجه نحو الماضي، بل تم ذلك بعفوية.
قاتل اليمنيون عقودًا دفاعًا عن ثورتهم، لكن امرأة شهدت كثير مما جرى إن الإمام كان يقص المسمار، كناية عن العدل.
ينظر الناس بتقدير إلى الماضي ويزداد نصوعًا عندما لا يحمل إليهم ثمارًا ناضجة.
إن كانت فبراير قد غيرت طموحات الناس من حلم بالحرية والمشاركة السياسية إلى المشاركة في الوقوف أمام أبواب وكالات الإغاثة، وانتظار دعوة فنانة فرنسية ليس لإقامة احتفال، بل لاستعطاف الجمهور أن يقف دقيقة لإنقاذ شخص ما في بلد اسمه اليمن، فإن الأمر ليس جريرة أولئك الذين خرجوا لأنهم أرادوا مستقبلًا ازداد قتامة، ليس ذنبهم أنهم حاولوا، بل كانت جريمتهم إن لم يحاولوا.