مقالات
صالح والصورة التي باعت الوهم لليمنيين في سبتمبر (2/1)
لثلاثة عقود، ظلّ المشهد نفسه يتكرر: منصة عالية في ميدان السبعين، وقائد يقف وسط الحاضرين بقامة قصيرة، لكنه يبدو وسط ضيوفه من الرؤساء والملوك عملاقاً في مناخ الاستعراضات العسكرية المهيبة. خطوات منتظمة، أنغام موسيقية صاخبة، وأزياء عسكرية ملوّنة تخطف الأنظار وتزين الميدان.
هكذا كانت الصورة في أعياد ثورة الـ26 من سبتمبر تُبث إلى كل بيت في اليمن، وهكذا كان هو المشهد الذي أراد الرئيس صالح أن يرسخه في أذهان اليمنيين: صورة جيش عظيم موحّد قادر على حماية الوطن والنظام الجمهوري. لكن وراء هذه الصورة كان يتشكل واقع أكثر مرارة ومأساوية على مستقبل اليمنيين.
في كل مناسبة وطنية، كانت الكتائب تسير في ميدان السبعين، والأعناق تلتفت نحو المنصة، والعيون تحدّق في القائد الذي كان يستمتع بـ"هيلمان العرض والسلاح" وتحليق الطيران فوق رؤوس الحاضرين. غير أن هذا لم يكن احتفاءً بتحقيق الوطن الذي حلم به اليمنيون شمالاً وجنوباً منذ ثورتي سبتمبر وأكتوبر، وحتى بعد تحقيق الوحدة اليمنية، بل كان تمجيداً للرئيس الذي لم يفرق قط بين نيل المجد في التاريخ وحيازة التمجّد في الزمن، حتى لو خدمته الظروف والصدف.
منذ أن صعد إلى رأس السلطة في يوليو 1978 خلفاً للرئيس أحمد الغشمي، أسس صالح بعناية فائقة لفصل الجيش والأمن عن مفهوم الدولة، لأن هدفه كان تمكين سلطته السياسية من ابتلاع دولة المؤسسات التي ظهرت ملامحها مع تجربة الشهيد إبراهيم الحمدي التي استمرت من 1974 إلى 1977 وغابت في عهده، لكنها تحولت عبر سنوات الكفاح الحزبي إلى مشروع دولة وطنية ديمقراطية في عام 1990 (دولة الشعب في الشمال والجنوب)، لاسيما بعد أن حضر الجنوب اليمني بمشروعه الوطني كطرف وشريك أساسي في الوحدة اليمنية، بفضل الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
الوحدة لم تمنح اليمنيين فرصتهم التاريخية المتعلقة بالمستقبل المتصالح مع فكرة التغيير الوطنية فقط، بل على أساس تقدمية هذا المستقبل دخلت اليمن لأول مرة في تاريخها في معادلة صراع حقيقي جاد يتعلق بسؤال السلطة التاريخية والدولة الوطنية: وأي منهما ينبغي أن تكون الحاكمة في مستقبل الوحدة اليمنية؟ وهل اليمن، مع فكرة التغيير الوحدوية {الوطنية الديمقراطية}، ينبغي أن تُحكم بسلطة العقل السياسي الحزبي أم بسلطة العقل السياسي التاريخي؟ طالما أن المرجعيات السياسية والدستورية الموقَّع عليها بين الشمال والجنوب (مثل دستور 1990 واتفاقية الشراكة والاندماج) قد جعلت الديمقراطية رديفاً سياسياً للوحدة اليمنية.
مع هكذا فرصة تاريخية سانحة لليمنيين، لم يقف صالح {رئيس الجمهورية اليمنية} في صف الدولة ولم ينتصر للعقل السياسي الحزبي، بل وقف في صف السلطة والعقل السياسي التاريخي. لم يكن معنيّاً بصناعة المجد ونيله في تلك اللحظة التاريخية بقدر ما كان مهووساً بالبقاء على رأس السلطة.
ومن أجل انتصار توجهه السياسي، لم يكتف بتسريح وحدات الجيش القادم من الجنوب بعد حرب صيف 1994 الأهلية، بل استمر في تجريد الجيش في الشمال من عقيدته القتالية الحقيقية، وحوّله إلى أداة في صراعاته السياسية، خصوصاً منذ حرب 1994 وما بعدها، حيث تمكن من إحكام سيطرته العائلية على الجيش والأمن من خلال تعيين أقاربه في المناصب العسكرية والأمنية الحساسة، بعد أن تمكن من إزاحة الخصوم والحلفاء. وليس بغريب أن يعبّر عن ذروة انتصاره للسلطة على الدولة في اعترافه الصادم الذي لا يمكن نسيانه، عندما قال للصحفي أحمد منصور على شاشة الجزيرة في عام 2007: "إن جيشه معدّ لقمع الشعب مثل بقية الجيوش العربية". جملة لو نطق بها أي زعيم في العالم لكانت سبباً في محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، ناهيك أن تقال من رئيس دولة دستورها ملتزم بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة. لكنها في عهد صالح تحولت هذه الجملة في نظر حزبه وأنصاره إلى "حنكة سياسية" و"شجاعة" لا يمتلكها أي رئيس في العالم!
حتماً، الكتابة في سطور هذه المقالة لا تطارد الرئيس صالح بشخصه بدوافع سياسية حاقدة عليه، ولا تهدف إلى محاكمته دستورياً وقانونياً، لأن ذلك لم يعد ممكناً حتى أمام القضاء بعد موته؛ لكنها بدون شك تطارد الصورة الحقيقية للجيش الذي تشكل على يديه، ولم يتتلمذ قط في مدرسة التكوين السياسي الوطني خلال فترة حكمه التي تجاوزت ثلاثة عقود من الزمن. خصوصاً أن مثل هذه الفترة كانت كافية لبناء جيش وطني قادر على حماية الثورة والجمهورية والتصدي لأي انقلاب على مكتسباتهما، لكنه لم يشأ ذلك، وقال بعظمة لسانه: "إن جيشه معد لقمع الشعب"، وليس لحماية مكتسبات الشعب اليمني. ومع ذلك، كان حريصاً على ترك صورة الجيش تبيع الوهم لليمنيين في كل مناسبة وطنية، أعني عروضاً عسكرية توهم اليمنيين بأن لديهم جيشاً قادراً على حماية الثورة والجمهورية والوحدة اليمنية.... يتبع