مقالات
صراعنا في اليمن سياسي لا هوياتي!
يردد عدد من المحللين السياسيين، في أوقات كثيرة، مقولات مبسّطة حول طبيعة المجتمع في اليمن، وهي مقولات أنتجتها الصراعات السياسية، ومن أمثلتها: حديثهم بأن أبناء "إب" "وتعز" رعيّة ومزارعون، وأهل المناطق المرتفعة مثل: صنعاء، وعمران، وحجة، وصعدة، محاربون و"متبندقون"، لا يجيدون الزراعة، وكأنهم من سكان البوادي والصحاري....الخ، بينما هم مستقرون يسكنون في قرى، ويعيشون من زراعة الأرض.
فالقبيلي، بالأساس، مزارع وفلاح.. يقول الحميد بن منصور:
ما للقبيلي تجارة
تجارته بالمقاسم
إن تجربة التعددية السياسية، في اليمن، أثرت تأثيراً كبيراً في أوساط المناطق المعزولة، والمغلقة، في كافة أرجاء البلد، وتمكنت الأحزاب من اختراق منظومتها القائمة على الولاءات الضيّقة.
ويمكن ملاحظة ذلك في الانتخابات الرئاسية، التي جرت عام 2006، بحيث ظهرت المواقف داخل المناطق المعروفة بتماسكها الاجتماعي تجاه المرشحين، محكومة في الغالب الأعم بالبرنامج السياسي للأطراف، والالتزام بتوجهات الأحزاب، بعيداً عن الولاءات المناطقية، والقبلية، والمذهبية.
يتوهم البعض أن القوة داخل القبيلة مجمّعة في يد زعيمها، وأنه يمتلك سلطة قهرية على أفرادها، بينما هي سلطة معنوية، تقوم على الإقناع والقبول، وعلى التوازن والتكامل، لا السيطرة والاستحواذ.
فالسلطة داخل القبيلة موزّعة بين عدة أطراف، وليست مجموعة في يد فرد بعينه، وإذا وُجدت شخصية غطى بروزها وظهورها على الآخرين، فإنه ناتج عن قدرته في التعبير عن المجموع، وتفوّقه في بناء التحالفات، وفهم التوازنات، وحل الخلافات، سواء بين أبناء القبيلة الواحدة، أو مع غيرها.
لقد ظلت القبائل اليمنية تبحث عن الشراكة في الحُكم، والحصول على دور أساسي ورئيسي في السلطة، يكفل لها ضمان تحقيق مصالحها، وصيانة أمنها واستقلاليتها، وليس التبعية والخضوع، فهي لا تملك مشروعا أو طموحا للحُكم، لكنها بالتأكيد تشكل أداة ضغط قويّة ضد السلطة أو معها، وترجيح كفة هذا الطرف أو ذاك، فخلال 1200 سنة لم تعرف اليمن دولة "القبيلة الغالبة".
تسعى القبيلة من وراء التحالفات مع أي سلطة قائمة، أو مع الطامحين لها، من أجل تحقيق مكاسب، ومنافع للقبيلة، ولزعاماتها، وأفرادها على حد سواء، وحين يتم تهميشها، أو تجد أن تحالفها مع السلطة لم يضمن لها ذلك، فإنها سرعان ما تغيّر تحالفها بالبحث عن بديل، وهكذا ظلت تتعامل خلال فترات طويلة من تاريخها.
كما أن الانتماء المذهبي للقبيلة لا يعد محفزا أساسيا أو رئيسيا يجبرها على خوض الصراع لصالح الطرف الذي تشترك معه في المذهب، بل حساباتها ومصالحها هي من تحدد ذلك.
خلال الحرب اليمنية التركية عام 1905، كانت بعض القبائل في القسم الأعلى من اليمن ذات الانتماء الزيدي قد اتخذت موقف الحياد، وعدم الاشتراك في القتال إلى جانب الإمام يحيى، الذي يعتبر إمام الزيدية، إلا أن انتصار قواته في معركة "شهارة" على قوات أحمد فيضي باشا، رفع من معنويات الأول، بحيث استطاع نشر الدعايات وبثها في أوساط القبائل، بأنه حطّم أسطورة الجيش التركي، ذات التسليح العسكري الحديث، وقد أدى ذلك -كما يقول محقق كتاب [عشر سنوات من سيرة الإمام يحيى]- إلى أن "سارعت العديد من القبائل اليمنية إلى الالتحاق بقوات الإمام يحيى، وخاصة بعض فروع حاشد وبكيل وهمدان، فازدادت أعداد المتطوعين للجهاد، وتخلت بعض القبائل عن مواقف الحياد، التي التزمت بها سابقاً، وأخذت تقدم المؤن لقوات الإمام يحيى في بلادها"، ولم يتوقف تأثير ذلك على مناطق القسم الأعلى ذات المذهب الزيدي، بل امتد ليشمل غيرها من المناطق التي كانت خاضعة للسلطة العثمانية، من أبناء النطاق الشافعي، ورغم أن الإمام بعدها تم إخراجه من صنعاء، إنما علينا الاهتمام بموقف القبائل وأبناء المناطق من الصراع، وكيف أن الانتماء المذهبي لم يدفع القبائل الزيدية إلى خوض الصراع إلى جانب الإمام، وإنما الطريقة التي واكبت الانتصارات والدعايات المبالغ فيها من قبل الإمام هي من أثرت في نفوس القبائل، بل وكان من نتائجها أيضا، في المناطق التابعة للأتراك، "امتناع كثير من الجهات الخاضعة للسلطة العثمانية عن تسليم الضرائب لمأموري الأتراك، وتمرّدت على ما كانت تفرضه الحكومة عليهم من غرامات وجبايات". وكان أهالي تلك المناطق من أتباع المذهب الشافعي.
الطرف الذي يستطيع كسب المعركة في اليمن هو الذي يمتلك أكبر شبكة تحالفات اجتماعية، فالخلافات المذهبية لم يعرف أنها شكلت جوهر الصراع بين القوى، فطوال خمسة وثمانين عاما من الصراع المدمّر، والمنهك، في القرن السادس عشر الميلادي، بين الطاهريين "السنة" والأئمة "الزيديين" لم تشكل الاختلافات المذهبية محفزا للاقتتال، بحيث ظل العاملان "السياسي"، و"الاقتصادي" هما المحرّكين الرئيسيين.
ومن هنا يأتي الحديث عن صراع هويّاتي، في اليمن، فاقدا لقيمته، خصوصاً، حينما ندقق في الوقائع القائمة اليوم، أو في الصراعات التي عرفها البلد، خلال حقب التاريخ المتواصلة، ومحاولة إسقاط الحالة اللبنانية على اليمن تعتبر خطأ فادحا، ومحاولة للفت نظر الأجانب فقط!
ورغم بؤس اليمن وحالة الفقر، وفشل السياسات المتعاقبة، والحروب المتناسلة إلا أن مجتمع اليمن يملك إرثا حضاريا قادرا على مساعدته للخروج من هذا التيه والضياع.