مقالات
صقر الكتابة
أصدر الصديق الشاب صقر الصنيدي - مؤخراً - كتاباً روائياً، لم أستطع الحصول عليه؛ لأنني أقيم في بلد كالجزيرة المعزولة عن العالم.
وفي هذا البلد - الجزيرة لا تصل الكتب؛ ولكن تصل كل صنوف البضائع الممنوعة والمُتاحة، المُحرَّمة والمُباحة: المخدرات والشعارات، الخمور والسجائر، الإرهاب والملابس.
وما عجزتْ عن الوصول بالطرق المشروعة، فعلتْها عبر التهريب. وفي اليمن منافذ ونوافذ يمرُّ منها كل ما تريد تهريبه - ما تتصوره وما لا تتوقعه - من الصواريخ إلى التحاميل. فقط، الكتاب لا يستطيع الدخول ولا المرور. ولهذا في إمكانك الحصول على دبَّابة حبُّوبة، لكنك تعجز عن الحصول على كتاب مهذَّب، ولدته مطابع القاهرة أو الرياض أو بيروت أو عمَّان.
وأنا لا أجيد البتة القراءة من الشاشة، إذْ لا بُدّ لي من أن أتلمَّس صفحات الكتاب بيدي، ثم أشُمّها وأضُمّها، وأتذوّقها وأتمرّغها، وأحتضنها وأنام معها، وأكرمشها وأخرمشها، لأحُسّ بها بدرجة مائة في المائة، فالكتب كالنساء تماماً، حالة طبق الأصل.
صقر الصنيدي -أحد أصدقائي الشبان- نموذج في الأناقة والوقار، هو من الطائفة الجديدة من الكُتَّاب، وهي طائفة لا طائفة لها، بل طائفة قائمة بحدّ ذاتها، وطائفة لا تؤمن بالطوائف التي صارت لا تحكم البشر في هذا البلد فحسب، بل غدت تحكم كل شيء بلا استثناء: الأديان والأخلاق والأحزاب والآراء والمشاعر والأنفاس.
ونحن - اليمنيين - انتقلنا من يمن الأيديولوجيات إلى يمن الطوائف، ومن حروب الأيديولوجيات إلى حروب الطوائف!
تعرَّفت إلى صقر منذ سنوات ليست بالبعيدة، غير أن الأقلام الأصيلة كالجياد الأصيلة، تعرفها وتحبها من أول كلمة كأول نظرة.
وإذا كانت قد ظلت لقاءاتنا الشخصية عابرة كالشُهُب، إلاَّ أن مقالاته وحكاياته وخواطره وانطباعاته الأدبية كانت كالبصمة، كالوشمة وكالهجمة، لا بُد لها من أن تترك أثراً فيك وتأثيراً.
وكتابات صقر جدّ مختلفة، تحفر فيك عميقاً من دون أن تحمل شفرة. فالفكرة لا تحتاج إلى حدّ شفرة ولا كتالوج تشفير.
وكتابات صقر من هذا النوع تحديداً، هي تحفر في الوعي والوجدان، لا الورق. فصقر قلم قادم بكتابة لها صفات الصقر: السرعة والقوة والجمال وثقابة الرؤية.
ومنذ سنين، وأنا أرقب صقراً وأتابعه وأتحمَّس له وأُحمِّسه، فأجده -في كل مرة وبعد كل فترة- أجمل نصاً وأفضل نهجاً وأروع دأباً.
ومؤخراً، وجدته يتلألأ نجماً ساطعاً في عوالم الكتابة والأدب منذ أول كتاب أصدره.
وقليلون في هذا الكون يصيرون نجوماً حقيقية منذ كتابهم الأول.
كانت روايته "رحلة رأفت" إيذاناً ذائع الصيت بميلاد كاتب حقيقي مائة في المائة، أشبه بالصيت ذاته الذي يحدث عندما كانت القبيلة العربية القديمة تلد شاعراً جديداً، أو كما صارت القبيلة اليمنية المعاصرة تلد ضابطاً جديداً، أو قاتلاً جديداً.
هذا صقر الصنيدي الذي لم أكتب عنه - هنا - شيئاً ذا بال.
فقط، تذكًّروا ما كتبته.