مقالات
صنعاء التي تتآكل!!
على غير العادة، لم أزر مدينة صنعاء القديمة خلال شهر رمضان، وزرتها ثالث أيام العيد، ويا ليتني لم أفعل، ففي كل مرة أزورها في الآونة الأخيرة أجدها أكثر بؤساً ووحشة، وكأن مخططاً تخريبياً صار يمسك بمعاوله القاسية والعملاقة لهدم كل شيء جميل فيها، ابتداء من سورها الذي لم يُرمَّم منذ سنوات طويلة، وبدأت واجهاته الطينية بالتساقط، وسرَّع في ذلك ليس مواسم الأمطار المتعاقبة فقط، وإنما أيضاً الحفر في واجهاته لتثبيت صور الضحايا الذي سقطوا في حرب عبثية، وقودها أمثال هؤلاء.
بعض مساكنها وبيوتها القديمة، التي لم تصن بدأت بالتصدعات، ويتوقع كثيرون أن تنهار منازل أخرى، بفعل المناخ المتطرف وغزارة الأمطار -التي تتواصل في المدينة منذ أكثر من شهر- وإن أسراً عديدة غادرت مساكنها منذ أشهر تحسباً لكوارث قد تحل بها جراء ذلك، وأن أصواتها لم تصل للجهات المعنية التي بدأت بترميم بعض المباني، على حساب جهات ومنظمات دولية، بشكل انتقائي ولمنازل وضعها ليس بخطورة المنازل ذاتها التي غادرها ملاكها أو مكتروها.
أعمال الحفر العشوائي وخلع أحجار الرصف في المرات والشوارع دون إعادة تثبيتها مواضعها أوجد سلسلة لامتناهية من الحُفَر التي صارت مع الوقت مشبّعة بالمياه الآسنة والمخلفات التي تتصاعد منها روائح نتنة، تماما مثل أكوام القمامة المتراصفة في الحواري والأزقة، التي لم تمرّ عربات القمامة لرفعها منذ أيام.
منذ حطت قدماي باب اليمن وصولاً إلى مقهى وردة مروراُ بسوق النظارة وسوق الملح والأسواق الفرعية القريبة من المقهى، بقيت مركزاً نظري على موضع خطواتي حتى لا تفاجئني حفرة غير منظورة تحت برك الماء الآسن بفعل أمطار المساء الغزيرة، التي احتقنت فيها ولم تتصرف.
أحجار الرصف البيضاء تبدلت ألوانها إلى ألوان أخرى في مربعات السوق، حين أمتزج الطين الأسود بمخلفات الحوانيت من البلاستيك والكرتون والمخلفات الحيوانية؛ حتى القات المُستهلك الذي يرميه المخزنون من أفواههم مطحوناً لزجاً تجد عناوينه البارزة في هذه اللوحة العبثية.
منذ سنوات طويلة، لم تُجدَّد واجهات الكثير من المباني المتكلسة والحائلة، وجُدِّدت بدلاً عنها الشعارات التعبوية المكتوبة بأصباغ عصية على الإزالة، وجُدِّدت أيضاً صور الضحايا على الجدران التي تحتل الواجهات الجمالية التي تُختار بعناية فائقة من أجل تشويهها فقط، فإذا أردت التوقف في إحدى الصرحات الرئيسة لاسترجاع أثراً مطبوعاً أو محفوراً في بالك وذاكرتك لجدار أو واجهة مبنى أو بستان فلن تجد من ذلك أثرا، وستجد عوضاَ عن ذلك شعاراً دينيا تعبيويا أو صورة ضحية أو خِرقا بالية، وربما واجهة منزل منهار.
بمناسبة ذكر البساتين في المدينة، فمخطط الاهمال والتدمير طالها هي الأخرى، وكأن هذا المخطط ليس معنياً بتدمير المعمار فقط، وإنما أيضاً الخضرة والأشجار، وإن البساتين القليلة التي تقاوم هنا وهناك في أحياء وحواري المدينة التاريخية مثل بستان القاسمي فبجهود ذاتية، ومن الأسر التي تنتفع من بعض مزروعاته البسيطة في المواسم مثل: "الكراث والفجل والنعناع والحبق (الريحان)".
مُنعت النساء والعائلات من الجلوس على ضفتي السائلة بقرار عنصري وظلامي متخلف؛ صادر عن مكتب الأشغال في المدينة القديمة، الذي تحول إلى مركز حسبة، وليس مكتبا لخدمة الناس، بحجة منع الاختلاط في الأماكن العامة، تماماً مثل منعهن من ارتياد المقاهي الشعبية مع أقربائهن وأطفالهن.(*)
الواجهات الحجرية لجدران السائلة وعقود الجسور، التي تصل بين الضفتين وكانت تشكل حالة جمالية جديرة بالتأمل، صارت هي الأخرى مشوَّهة ومؤذية للعين، ملطخة الأصباغ والصور. وإن أجمل مكان في السائلة تمت استباحته "حينما وضعوا خيمة في الاستراحة الحجرية الأنيقة عند مدخل حارة وبستان القاسمي، وتُطل على فضاء بستان المهدي عباس، من أجل إقامة انشطتهم التعبوية والتحشيدية لعناصرهم في المدينة ومجاوراتها. فقد كان المكان قبل أن يضع الحوثيون فيه الخيمة، ويمنعوا الناس من الاقتراب منه، من أجمل المتنفسات البسيطة بمصطباته الحجرية المنقوشة ودرجاته الانيقة التي يُستراح عليها".
من يُنقذ صنعاء من هذا العبث الظلامي والتخريب الممنهج؟ وقبل ذلك من يُنقذ البلاد من كل تعدٍ على كل شيء جميل في حياة اليمنيين؟
_________________
(*) أثناء جلوسي في المصطبة المقابلة لباب مقهى وردة لاحظت أكثر من أسرة يتم الاعتذار لها من الدخول؛ بسبب قرار المنع الحوثي، وهي التي اعتادت الحضور في المناسبات لتناول القهوة مع اطفالها، وفي مكان معزول عن الآخرين في البهو الداخلي للمقهى الشعبي.