مقالات
صنعاء الجائعة تحتفل بالمولد النبوي
ماذا تُريد السلالة من حفلاتها الباهضة بمناسبة " المولد النبوي"..؟ تعزيز مشروعية وجودها بواسطة تكثيف نشاطاتها الطائفية وتسويق طابعها الديني المرتبط بميراث النبوّة. أي أنّ إحدى غاياتها استمالة ولاء ديني وتوليد حالة من الرضى الشعبي عنها. هل هذه الغاية تتحقق..؟ هل الهدف يُبرر إنفاق مليارات الريالات كل عام على ذكرى المولد..؟ وبصيغة أخرى للسؤال: هل هذه الطريقة والمناسبة والنشاط الأنسب لحيازة ولاء اليمنيين..؟
الجواب: نعم ولا. نعم بالنظر لطريقة تفكير السلالة. إنّ أحب الطرق إليها، أو لنقل ما تُجيده من أساليب لحشد الناس. هو الخطاب الدوغمائي. المناسبات ذات البعد التعبوي والنشاطات المتناغمة مع مهاراتهم. إنّنا أمام سلطة قائمة على أساس الشحن العاطفي. لهذا تبحث عن كل مدخل يُمكِّنها من ضخ أكبر قدر ممكن من الحماس؛ لتنجح في حجب أي منطق لدى الجماهير؛ بل لتُعطّل لديهم أي مساحة للتساؤل حول صوابية واقعهم أو بزوغ حس احتجاجي لدى الناس. إنّها لا تحلم بتعميق إيمان الشعب بالنبي؛ بقدر ما تهدف لمصادر وجودهم؛ لتطبيعهم مع ما هم عليه. باعتبار هذا الواقع، هو الحالة الوحيدة الممكنة. وها هي مناسبة ميلاد النبي، حدث يُبارك ويضفي مشروعية مهيبة على ما أنتم عليه أيّها الناس، وعلى طريقتنا، نحن السلالين في إدارة شؤونكم العامة. هذا هو منطق السلالة، بحسب مستوى وعيها ومداركها.
هل طريقة السُلالة في الإحتفاء بالنبي، ذكية وتُحقق هدفها بشكل موثوق...؟ أشك بهذا؛ بل أكاد أُنفي أي تحقق واقعي لما بهدفون إليه. بوضوح أكبر، يبدو جليًّا أنّ مساحة تأثير السلطة السلالية على الناس تظل محدودة، والقوة الإقناعية لخطابهم تفتقد لأي سند واقعي. ذلك أنّ الناس وإن تساوقوا مع السلطة وذهبوا للإحتفال معها. سُرعان ما يزول انبهارهم بالترتيبات المهرجانية، ويستيقظ قلقهم الوجودي، وهم يُفكرون بواقعهم ومعيشتهم.
سيقول قائل: لكنّ ألا يبدو أنّ الناس قد تطبّعوا مع الوضع العام وفقدوا أي نزعة رفض وتململ..؟بالطبع، لا يُمكن أن يكون هذا هو الحال. مهما بلغت حالة هوان الناس وحتى تبلدهم. يظل الإنسان مخلوق يحمل قوة كامنة وميول جذري لمُباغتة أي سلطة أو جهة تتحكم بمصيرهم. وهذه ليست نبوءة غيبية بقدر ما هي إحدى حقائق النفس البشرية الأكثر بداهة.
لو كانت السلطة الحوثية، تملك حدّ أدنى من الوعي بطبيعة المجتمعات، خبرة بأبسط أدوات السيطرة الحقيقية على الناس. لو أنّها مُتمرّسة في منطق السياسة وكيف يجب أن تُساس الشعوب. لخصصت نفقات المولد النبوي، كلّ عام لعمل حزمة مشاريع تجارية وخدمات عامة، وحولت مناسبة المولد لمهرجان شعبي يُفاخر وينتظر المولد؛ باعتباره تاريخ مفاجأت كبرى تقوم بها السلطة. بهذه الطريقة، ستضمن ولاءً عموميًا مُستديمًا. ولاء جذري ذو طابع يتجاوز القناعات الطائفية. ولسوف تنجح في تمرير خطابها ليس داخل أتباعها؛ بل وخلخلة قناعات المناهضين لها وربما انتزاع تقديرهم للسلطة السلالية والنظر لمناسبة المولد، كحدث وطني وحامل لبعد نهضوي، وليس حدث لتضليل الناس والدجل باسمهم.
مرة أخرى، إذ لم تكن غاية النبوّة والنبي؛ تحسين وجود البشر في الأرض، تحريرهم من بدائيتهم، معنويًا وماديًّا. بدون هذا، لن يتأثر الناس؛ بأي خطاب عنه، لا يكترث لحياتهم. ولسوف يهمسون في سرّهم : لا قيمة لقداسة النبي؛ ما لم تكن قداسة الإنسان أُولى أهدافك. تموت القداسات كلّها، تصمت القيم وتغدو الأخلاق كلمات بلا أثر. طالما كان وجودك الإنساني ذليلًا وتحيا مُحاطًا بالخوف من كلّ مكان. البشر الخائفون في صنعاء؛ يستحيل أن يستشعروا أيّ فكرة غير متصلة بوجودهم الواقعي. لا الدين ولا النبوّة ولا حتى الله؛ يمكن أن يكون محور إهتمام مؤثر؛ لحظة فقدان الإنسان إحساسه بوجوده الواقعي.
يُبالغ الحوثي في إضفاء سمة إيمانية على سلطته الجاحدة بالناس، يُروجون لهوية فوقية لا صلة بينها وبين الواقع المرير. هم لا يهدفون بذلك لتعزيز روح القداسة لدى الجماهير؛ بقدر ما يطمعون لتغطية نفوسهم الدنيئة؛ بقداسة مُستعارة. يُحاولون إشاعة جو روحاني؛ لتخفيف طباعهم المادية وإزاحة أذهان الناس قليلًا عن حقيقتهم الجشعة ولؤمهم المكشوف.
سلطة تستحوذ على كلّ موارد الدنيا، وتبيع للتُعساء خُطب ومهرجانات لأفراح غير موجودة. هم لا يحتفلون بالنبي ولا يُمجدون النبوّة. إنّهم يبتهجون بمكاسبهم وسط أناس مكدرين. يُريدونك أن تفرح بهم، تُبارك سلطتهم. يُحيطونك بألون وأضواء خضراء من كلّ مكان. كما لو أنّهم يرغبون بتجريدك؛ حتى من حقك في التأفف منهم. أنت في صنعاء مُرغم على المشاركة في الحفاوة بالمولد ولو أنّك على مشارف الموت. المهم أن تُبارك معهم مناسبتهم هذه، مولدهم الخاص، ولتذهب لتحتضر وحدك، فهذا قدرهم وذاك قدرك.
تهدف جماعة الحوثي، لتثبيت خطوط فكرية ذات بعد طائفي، وتعزيزها كلّ عام بشكل دوري؛ كي تضمن تعميق تصوراتها العامة كأرضية وخلفية للسلطة والنظام الذي تود استدامته. تحت هذه الغاية الكبرى؛ تندرج ذكرى المولد النبوي. إنّها ليست سوى ثيمة من بين ثيمات كثيرة، لافتات عريضة، الغاية منها تجذير قناعاتها في اللاوعي الجمعي، كما لو كانت أحداث وطنية كبرى ومناسبات مركزية تُعبّر عن أحلام الناس وانتماءاتهم.
الخلاصة:
نحن أمام جماعة لديها تصورات وخطابات وسياسات، لا علاقة لها بالواقع ولا هي متعلّقة بالناس. تصورات منفصلة عن حركة الحياة. سلالة غارقة في أوهامها الخاصة وتؤمن بإمكانية فرضها على الناس والعمل على الضدّ من المستقبل ومتطلبات الحياة. هاته الحالة الغرائبية تشتغل بعزيمة وإصرار وغير قابلة لأي مراجعة. ولديها ثقة أنّها سوف تتمكن من السيطرة على المصير والمستقبل للأبد.