مقالات
ضد التشظي.. دفاعًا عن اليمن الواحد
لا يملك المجلس الانتقالي الجنوبي، رغم كل ما يوظفه من أدوات القوة والدعاية، القدرةَ الحقيقيةَ على إحداثِ قطيعةٍ مصيريةٍ بين شمالِ اليمنِ وجنوبِه.
فعلى مدارِ العامِ، ينتهجُ المجلسُ سياسةً تقومُ على فرضِ أمرٍ واقعٍ سياسي، وتسويقِ مشروعٍ انفصاليٍ بوسائلَ رمزيةٍ وميدانيةٍ، من رفعِ أعلامِ ما قبلَ الوحدةِ، وتكريسِ خطابِ الهويةِ الجنوبيةِ المنفصلةِ، وصولًا إلى محاولةِ إنتاجِ مؤسساتٍ إداريةٍ وعسكريةٍ مستقلةٍ في المناطقِ الخاضعةِ لسيطرتِه. غيرَ أنَّ هذهِ التحركاتِ تصطدمُ بحقيقةٍ بنيويةٍ راسخةٍ: اليمنُ، بوحدتِه الجغرافيةِ والبشريةِ والتاريخيةِ، لا يقبلُ التجزئةَ، ومشروعُ الانفصالِ يفتقرُ إلى الحاضنةِ الوطنيةِ الشاملةِ، فضلًا عن افتقارِه لمقوماتِ الدولةِ المستقلةِ القابلةِ للاستمرارِ سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
المفارقةُ أنَّ المشروعَ الانفصاليَّ الذي يسعى المجلسُ إلى فرضِه، يبدو في كلِّ مرةٍ عاجزًا عن بناءِ سرديةٍ سياسيةٍ مقنعةٍ تتجاوزُ الخطابَ العاطفيَّ أو المظلوميةَ التاريخيةَ، كما أنَّه يفتقرُ لشرعيةٍ داخليةٍ حقيقيةٍ. فكلَّما أطلَّ عيدُ الوحدةِ، تنكشفُ تلكَ الهشاشةُ؛ إذ تخرجُ قطاعاتٌ شعبيةٌ واسعةٌ من شمالِ الوطنِ وجنوبِه لتعبرَ عن تمسكِها بوحدةِ 22 مايو، لا بوصفِها إنجازًا تاريخيًا فحسب، بل كضرورةٍ وجوديةٍ في ظلِّ واقعٍ إقليميٍّ هشٍّ ومفتوحٍ على سيناريوهاتِ تقسيمٍ واسعةِ النطاقِ.
الوحدةُ اليمنيةُ لم تكنْ مشروعًا فرديًا أو لحظةً عابرةً. لقد تأسستْ على تراكمٍ طويلٍ من المحاولاتِ والمشاريعِ السياسيةِ منذ ستينياتِ القرنِ الماضي، وكان الرئيسُ إبراهيمُ الحمدي من أوائلِ من أعادوا إحياءَ هذا الحلمِ عبر مشروعٍ وطنيٍّ شاملٍ يقومُ على بناءِ دولةٍ مدنيةٍ حديثةٍ، قبلَ أن يُغتالَ في لحظةٍ سياسيةٍ مفصليةٍ كانت تمهدُ فعليًا لتقاربٍ حقيقيٍّ بينَ الشطرينِ.
ما جرى بعدهُ لم يكنْ إلا امتدادًا لمحاولةٍ لم تكتملْ، وليسَ من الدقةِ حصرُ الوحدةِ بشخصيةِ صالح، صحيحٌ أنه قادَ التفاوضَ وصياغةَ الاتفاقِ، إلا أنَّ الوحدةَ – بمفهومِها السياسيِّ العميقِ – هي نتاجُ إرادةٍ تاريخيةٍ يمنيةٍ لا تختزلُ في شخصٍ، ولا يُمكنُ تحميلُ تبعاتِ فشلِها لاحقًا لطرفٍ واحدٍ دونَ النظرِ إلى المسارِ الكاملِ.
إنَّ تنصلَ الحكومةِ عن الاحتفاءِ بهذهِ الذكرى، وإظهارَ الترددِ في الدفاعِ عنها، لا يمكنُ قراءتُه إلا كمؤشرٍ على ضعفِ استراتيجيتِها الوطنيةِ، وتخليِها الضمنيِّ عن أدواتِ الصراعِ الرمزيِّ مع القوى الانفصاليةِ، الأمرُ الذي يصبُّ في مصلحةِ الطرفِ الذي يملأُ الفراغَ السياسيَّ والدعائيَّ في الجنوبِ. فالتنصلُ من ذكرى الوحدةِ لا يمثلُ فقط تخليًا عن رمزٍ وطنيٍّ، بل يبعثُ برسائلَ سلبيةٍ متعددةٍ: للداخلِ الذي يشعرُ بالخذلانِ، وللقوى الدوليةِ التي تراقبُ الوضعَ اليمنيَّ وتُعيدُ تقييمَ مشهدِ الشرعياتِ الفاعلةِ، وللقوى الإقليميةِ التي تستثمرُ في الانقساماتِ، وتعملُ على إعادةِ هندسةِ الجغرافيا السياسيةِ في اليمنِ بما يخدمُ مصالحَها لا مصالحَ الشعبِ.
سياسيًا، إنَّ جوهرَ الصراعِ في اليمنِ لم يعدْ محصورًا في البعدِ الطائفيِّ أو الجهويِّ، بل أصبحَ صراعًا على مفهومِ الدولةِ الوطنيةِ ذاتهِ، وعلى مركزيةِ القرارِ السياسيِّ. وكلما ضعفَ المركزُ، تصاعدتْ نزعاتُ الهوياتِ المناطقيةِ والفرعيةِ.
ولهذا فإنَّ التمسكَ بوحدةِ الدولةِ ليس خيارًا أيديولوجيًا أو حنينًا للتاريخِ، بل هو ضرورةٌ لمجابهةِ مشاريعِ التفكيكِ التي يتمُّ هندستُها ضمنَ استراتيجياتِ القوى الإقليميةِ الكبرى، حيثُ يتمُّ استخدامُ أدواتٍ محليةٍ لتنفيذِ أجنداتٍ تتجاوزُ المصالحَ الوطنيةَ.
الوحدةُ، في جوهرِها، هي مشروعُ حريةٍ وسيادةٍ وطنيةٍ، وهي التعبيرُ الأصدقُ عن إرادةِ شعبٍ لا يقبلُ التفككَ، وحقٌّ لا يمكنُ التنازلُ عنهُ، وصمامُ أمانٍ للحفاظِ على تماسكِ المجتمعِ ومستقبلِ الأجيالِ القادمةِ.