مقالات
ظاهرة الرداءة وشكوى المثقف..
بين الفينة والأخرى، تجد مثقفين من هنا وهناك، يشهرون سياطهم ضد الرداءة المتفشية، إنها مزعجة للجميع وآثرها مدمّر على الوعي العام، ذلك ما نتفق به معهم ولا يمكننا التشكيك به؛ لكن نقد الرداءة لا يكفي لتقويضها، لا يكفي أن نهجو النماذج السطحية كي نحرس وعي المجتمع.
هذا سلوك هو بذاته سطحي الأثر، لكأننا -حين نقوم به- نزعم أننا قد تمكنا وبالضربة القاضية من تحييده، وهذا وهْم مبالغ به، بل ويكشف عن عدم تمكننا حتى اللحظة من تشخيص التفاهة وكيفية تجاوزها.
لدينا أشخاص فارغون ونشطون جدا، وجمهور عريض يتابعهم، القطاع الأعظم فيه متواضع الوعي، ومن الطبيعي أن يجتذبهم كل ما هو سطحي وعابر ويفتقد للقِيمة الخالدة. إلى هنا الأمر طبيعي ومفهوم. ما ليس طبيعي هو أنك لا تدري من الذي أوهم المثقف أن الغالبية في المجتمع كان يجب أن تحتشد خلفه، ولا أدري لماذا يغضب المثقف حين يجد الحشود تلهث وراء التسلية والقضايا الفارغة.
بالمقابل، لدينا أشخاص يملكون أدوات الفكر والمعرفة ومؤهلون للنشاط الثقافي بمعناه الرفيع والمتعدد؛ لكنهم أقل فاعلية وكسالى، ويعتقدون أن مهمتهم تقتصر على جلد المجتمع والتشكيك بذائقته. فلا هم اشتغلوا لحجز مساحات لهم تتمتع بنوع من الثراء، ولا توقفوا عن التأفف والعويل وجلد الآخرين والسخرية الفوقية منهم.
من الواضع أن لعنة الثنائيات المتناقضة تلاحقنا (مثقفون خاملون وشعبويون فاعلون)، لكأن طبيعة الحياة اقتضت هذا التناقض الغريب، ما يجعلنا أمام حاجة صعبة للموازنة، يكون بموجبها المثقف أمام تحدّي الفاعلية والقدرة على الوصول إلى الجمهور، والشعبوي أمام تحدّي الوعي وضرورة تثقيف نفسه ولو بالحد الأدنى من متطلبات الفهم، كي يطّلع على جمهوره وهو قادر على تبسيط القضايا لهم، وتقديم مادة مقبولة حول الأوضاع.
فكما أن حالة القطيعة بين المثقف والجمهور هي نقطة سلبية في حالته، إذ لا قيمة حيوية لعقل محمول على طبع بارد، مثلما لا قيمة معرفية وتنويرية لحماسة فارغة يصدح بها الشعبوي، والطريقة الوحيدة لرفع مستوى قيمة الطرفين ونشاطهم هي احتياج كل طرف لبعض من سمات الآخر.
على أنني حين أضع المثقف في طرف مماثل للشعبوي، لا أعني تماثلهم في القيمة المعنوية، فبطبيعة الحال يظل المثقف حارس القيمة والمعنى ومصدر التنوير الأساسي، غير أنني -وفي سياق تناول شكواه من الرداءة- أدينه، بل وأرى مداومته على التبرم منها، نشاط فارغ من القيمة.
ذلك أن الرداءة لا تنتظر حكمه كي تتوقف، ولا تستمد شروط فاعليتها مما يقوله عنها.
هناك طريقة وحيدة أمام المثقف كي ينجز دوره التنويري، ويتوقف عن استيائه العاجز، وسخطه ضد الواقع، هو أن يحتشد بكامل قواه ويتمكّن من تعديل الكفّة لصالحه، وليس بالضرورة أن يكن قادرا على مزاحمة الشعبويين، بل ليس مطلوباً منه ذلك، هو مطالب أن يقوم بما هو قادر عليه، يحفّز أقصى قدراته، وينجز دوره فحسب كما يفهمه وبقدر مستطاعه، وبهذا يسهم بحل جزءٍ كبيرٍ من المشكلة.
طوال التاريخ البشري، وحتى عصرنا هذا، ويمكن الذهاب أبعد والقول وحتى قيام الساعة، كانت النسبة الساحقة من المجتمع ذات طبيعة عادية ومسطّحة، ويصح كثيراً وصفها "بالشعبوية" بالمفهوم الحاضر، ما يعني أن المجتمعات وفي أكثر فتراتها تحضرا ووعياً، ستظل السمة البارزة فيها هي "الشعبوية" والذوق المسطّح، وبالتالي فلا قيمة عملية للتبرّم منها، والمبالغة في تصوير خطرها.
إلا أن ما هو مؤكد وباعث للطمأنينة هو أن الرداءة والمزاج الشعبوي -مهما بلغت قوته العددية وقدرته على إثارة الصخب- تظل آثاره كما طبيعته سطحية وعاجزة عن إحداث أي حفر عميق في وعي المجتمع، فهي لا تتعدّى مجرد الرّغوة العابرة، وأثرها يزول سريعاً، ولا يمكنها أن تصير في يوم ما موجِّها وناظما أو صانعا للتأثيرات الحاسمة والجذرية في ذهن المجتمع.
صحيح أن ظواهر التفاهة تترك أثرا في اللحظة العابرة، وتربك الوعي المجتمعي مؤقتا، وتسحبه نحو اهتمامات عديمة القِيمة، لكن مهما بلغ نفوذ هذه الظواهر الفارغة تظل عاجزة عن التحكّم بمصير المجتمع، فالطبيعة البشرية تخضع لدوافع معقّدة، وتعيد تصحيح وعيها وتنظيم سلوكها بعيداً عن المؤثرات اللحظية الفارغة.
أخيراً، لديّ يقين خاص، قناعة أراها شديدة الثبات والتحقق، هو أن كل ما ينطوي على قيمة حقيقية في أي مجال سوف يأخذ مداه ودوره، بصرف النظر عن أي معيقات زمنية وواقعية ومعاصرة، فما من شيء يمتاز بالأصالة وله صلة بالواقع ومتطلباته، أو الوعي السليم وعناصره الصحية والأساسية، سيتمكّن من فرض ذاته، ويشق طريقه نحو هدفه.
ثمة قوانين ناظمة لحركة الحياة والطبيعة، وهي المتحكّمة النهائية بمسارات الواقع.
إذْ أن كل ما هو زائف ينكشف ويتلاشى، وكل ما هو ثمين وجوهري يعاود التدفق في قنوات الحياة ودروبها باستمرار.
وعليه فلا خوف من الرّداءة، مهما استفحلت، هناك خوف من خمول الجودة وحامليها فحسب، وهذا ما يتوجّب التركيز عليه دوماً، بدلا من خوض صراعاتنا مع طواحين الهواء، أو الاكتفاء بسيطرة التفاهة ولطم الخدود والشعور بالإحباط من تفشيها، وكأنّ تمددها قدرا حتميا لا يمكننا مدافعته، أو كأن الطريقة الوحيدة لمدافعته هي السخرية منه، وكأنك بهذا قد أنجزت دورك وعطّلتها، أو كأنّ دورك مجرد ردة فعل عليها، وليس فعلا له منطلقاته المستقلة، وأدوات نفوذه وفاعليته الموازية والمختلفة.