مقالات
عبد الودود مقشر وتاريخ تهامة
عبد الودود مقشر أستاذ أكاديمي جليل، وباحث مجتهد وقدير.
رسالته للدكتوراة «حركة المقاومة والمعارضة في تهامة 1848- 1962م» أول دراسة علمية شاملة وجامعة عن تهامة.
تاريخ تهامة -كجزء من اليمن الكبير- نقرأه في العديد من كتب التاريخ اليمني، في مؤلفات شيخ المؤرخين الجندي، والخزرجي، وبالأخص فيما نقله عمارة في كتابه «المفيد في أخبار صنعاء وزبيد»، نقلاً عن تاريخ المفيد لجياش المفقود، ومن بعده الحافظ ابن الديبع الشيباني في تاريخه «قرة العيون في أخبار اليمن الميمون»، و«بغية المستفيد في تاريخ مدينة زبيد» وفي «الفضل المزيد»، وقبله تاريخ «تحفة الزمن»، للبدر حسين المأخوذ من الجندي، والمضاف عليه أيضًا، وكذا التواريخ الخاصة بوصاب، والمخلاف السليماني، ومؤلفات الأستاذين: عبد الرحمن الحضرمي، وعبد الرحمن بعكر.
ما يميّز رسالة الدكتور عبد الودود أنها دراسة -أو بالأحرى دراسات بحثية علمية- تتسم بالدقة، وعمق التتبع، والرصد، وسعة البحث، والاطلاع للفترة الممتدة لأكثر من قرن، والإلمام بالتفاصيل، وتفاصيل التفاصيل اجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا وعسكريًا، وتتبع الوقائع بموضوعية ودقة قَلَّ نظيرها.
ولعلّ ما يميّز هذا الباحث المجتهد التخفف من حمولة الصراعات الطوائفية والقبائلية والجهوية بل والحزبية، فهو يقرأ الوقائع والأحداث بقدر من الموضوعية، ويقرأ متتبعًا الروايات المختلفة، ويقوم بإعادة القراءة والتحليل وإبداء الرأي بقدر من الموضوعية والاستقلالية.
أعد الدكتور رسالته للماجستير عن حركة الزرانيق؛ «الزرانيق والحكم الثاني في اليمن»، وواصل بحثه القيم عن تهامة؛ «حركة المعارضة والمقاومة في تهامة».
يقع الكتاب الكبير نسبيًا في 477 صفحة، مفتتحًا بالآية الكريمة: [وقل رب زدني علما]، وشهادة المشرف العلمي: أ.د عبد المناف شكر النداوي، ثم قرار لجنة المناقشة الدكتور عبد المناف شكر النداوي، والأستاذ المشارك الدكتور خالد عبد الجليل شاهر، والأستاذ الدكتور أسعد محمد زيدان الجواري.
في الإهداء كان الدكتور كريمًا؛ فغمر بإهدائه والديه وإخوانه وأخواته وزوجته وأولاده وبلده وأمته، كما غمر بالشكر كل من ساعده، أو قدم له خدمته في مسعاه البحثي.
يتكون الكتاب من أربعة فصول، وخاتمة. ويشتمل كل فصل على عدة مباحث، فالفصل الأول يتناول الأوضاع السياسية في تهامة 1849- 1918.
يدرس في المبحث الأول تهامة عشية عودة العثمانيين، وقوات محمد علي في تهامة وانسحابها.
وفي المبحث الثاني: الحكم العثماني المباشر لتهامة 1849- 1872، وقدوم العثمانيين إلى تهامة، وأسباب الثورة ضدهم.
ويتناول في المبحث الثالث الأوضاع السياسية العامة في تهامة 1872- 1918، وأسباب قدومهم إلى صنعاء، وأسباب الثورة في تهامة، والحروب الأهلية في مدن تهامة: زبيد أنموذجًا، ونشأة الجمعيات والحركات القومية.
في الفصل الثاني يدرس بروز وتطور حركات المقاومة التهامية المسلحة 1918- 1934، وأوضاع تهامة بعد خروج العثمانيين، وسيطرة البريطانيين.
يدرس في البحث الثاني المعارضة التهامية ضد الأدارسة، وصراعاتها، وأفولها. أما البحث الثالث، فسيطرة القوات الإمامية، والمقاومة ضدها.
أما الفصل الثالث، ففي أشكال المقاومة من 1928 وحتى 1948، متناولاً مقاومة قبائل العبسية، والرامية، والقحرى، وثورات الجرابح، وعبس، وبني حسن، وبني مروان، وبني نشر، وأسلم، والحملات الإمامية المتتالية والمعارك، وسقوط بيت الفقيه.
ويتناول في المبحث الثاني سياسة الإمام يحيى في تهامة، وموقف حركة المقاومة، والسيطرة على تهامة، وأساليب الحكم، وردود الفعل.
أما المبحث الثالث، فعن سقوط تهامة بيد السعودية، وتوقيع اتفاقية الطائف.
الفصل الرابع مكرس لمسارات حركة المعارضة 1948 – 1962، ويتناول سياسة الإمام، وموقف المعارضة، ودور تهامة في حركة 1948، والنخبة المثقفة.
في المبحث الثاني يدرس المعارضة الداخلية والخارجية والمعارضة ضد أحمد، وأبرز وجوه المعارضة، والضباط الأحرار من أبناء تهامة.
ثم الخاتمة، والمصادر، والمراجع، والملاحق، وقائمة بالمختصرات، والرموز، والمصطلحات العربية والإنجليزية.
ويزدان الكتاب بصور بمعتقلي الزرانيق في سجون حجة، وكشف بأسماء البعض منهم، وملخص للرسالة بالإنجليزي.
وهذا مجرد عرض لبعض العناوين الرئيسية للرسالة الواسعة المباحث، والمتخففة من الأدلجة، وعدم الوقوع في شرك التصنيفات غير العلمية كتسمية مؤرخي الإمامة للحروب الإمامية ضد اليمنيين بـ«الفتوحات».
فالفتح -كمصطلح إسلامي- يعني استيلاء الدولة الإسلامية على البلدان أو الأمم والشعوب الكافرة، فتصبح أراضيها ملكًا للدولة، وفرض التشريع والعقيدة على هذه الشعوب، وهو ما حصل في بلاد فارس وأرض الروم، ويمتلك المسلمون الحكم والتشريع والأرض، وخلاف الشافعية والأحناف حول مكة: هل فتحت حربًا أو سلمًا؟
والحروب في اليمن لم تكن فتوحات كما ادعى مؤرخو الإمامة، وانساق إليها أستاذنا الجليل الدكتور سيد مصطفى سالم، ولم يكن الشافعية ولا الأشاعرة كفار تأويل بحسب دعاوى بعض فقهاء الإمامة؛ وهو ما رفضه المؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم في «بهجة الزمن»، وابن الأمير في رسائله إلى آل القاسم بن محمد، وفي أشعاره المبثوثة في ديوانه.
إن الحروب، التي خاضها الشعب اليمني ضد الأتراك، هي حروب تحرير ضد احتلال أجنبي شأن حروب الأمة العربية في الأقطار التي حكمتها الدولة العثمانية. ويشير المؤرخ فاسيليف في كتابه «تاريخ العربية السعودية» أن بعض كبار الإقطاعيين وزعماء العشائر خاضوا حروبًا ضد الاحتلال العثماني الأول، وكقراءة الدكتور أبو بكر السقاف، والأستاذ عبده علي عثمان في ردهما على الدكتور مصطفى الشعبيني حيث يؤكدان أن اليمن كلها قد انخرطت في المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي بغض النظر عن المذهب والمنطقة والجهة، وهو ما درسه الباحث عبد الودود مقشر في رسالته، وكان بعض الأئمة في مناطق معينة في صدارة هذه المقاومة.
وهنا ينبغي أن نميّز بين الصراع ضد الأجنبي، والصراع في صفوف الشعب؛ فحروب الأئمة ضد أبناء شعبهم لم تكن بحال فتوحات بأي معنى كما يسميها مؤرخو الإمامة، وتابعهم أستاذنا الدكتور سيد مصطفى سالم، والمأساة أن تسمى في مواجهة الشعب حرب تحرير.
حروب المتوكلية اليمنية في العديد من مناطق اليمن، وإن استهدفت إنشاء دولة؛ وهو استحقاق فرضته الحرب العالمية الأولى إلا أن ما يعيب هذه الحروب هي الهمجية، والنهب، والإلغاء، وعدم احترام التنوع والتعدد، واستخدام أساليب المحتل وأقسى، وهي جريرة لا ينفرد بها الحكم في اليمن.
منذ البدء، اتسم تأسيس المتوكلية بدعاوى الحق الإلهي، وادعاء الوراثة، وحصر الحكم في البطنين، والتعصب، ورفض التشارك، والتعامل مع الحكم كغنيمة ومع الشعب كملكية خاصة.
هناك مشترك بين اليمن والعديد من الأقطار العربية، وبالأخص السودان يتعلق بالتفاوت في التطور والتمدن والتحديث، وداخل القطر الواحد؛ وهو ما نجم عنه خلافات وصراعات بينية؛ ففي السودان -كما يشير كثيرًا الباحث والمفكر عبد السلام نور الدين- أن حكومة الاستقلال والمعارضة السياسية لم تستوعب التباين الحاصل بين الشمال والجنوب، وداخل الشمال نفسه، ولم تعر اهتمامًا لقضايا التنوع والتعدد وحتى التشارك والمساواة بين مختلف المكونات والإثنيات؛ وهو ما أدى إلى حروب الشمال والجنوب، ومن ثم الانفصال؛ لينتقل الصراع إلى دار فور، ثم عموم أراضي السودان.
يدرس الباحث عبد الودود التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، كما يتتبع بدقة وموضوعية الرؤى المختلفة، والروايات المتباينة إزاء مختلف القضايا، ثم يقدم رأيه المتسم بالاتزان والاعتدال.
إنكار مقاومة بعض رموز الإمامة للاحتلال التركي ابتداءً من الغزو الأول والثاني والثالث خطأ لا يقل عن خطأ إنكار مشاركة كل المناطق اليمنية في المراحل المختلفة بعض النظر عن المذهب؛ وهو ما أشار إليه الأستاذان عبده علي عثمان والسقاف، ودرسه بعمق وشمول ودقة تحليل البروفيسور عبد الودود.
هذه القراءة المتواضعة ليست أكثر من تحية صدور مباركة.