مقالات
عثمان أبو ماهر: المطر، الأرض، وشُبابة الساقية
آخر ما كنت أتوقعه هو أن ترتبط أغنية أيوب طارش “شني المطر يا سحابة فوق خضر الحقول” بالرئيس أحمد حسين الغشمي، لكن هذه هي الحقيقة كما رواها لي أيوب طارش نفسه.
كنت أظن أن الأغنية وُلدت في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي، المعروف بشغفه بالتشجير والزراعة وتشجيع الفنانين والشعراء على المشاركة في مواسمها، غير أن أيوب أخبرني في لقاء جمعني به، أواخر العام الماضي، أنه غنّاها لأول مرة في مأرب، في حفل حضره الرئيس الغشمي، وكان برفقته كاتب كلماتها الشاعر عثمان أبو ماهر.
المفارقة أن الغشمي، الذي ارتبط اسمه باغتيال الحمدي ثم اغتيل هو نفسه بعد أشهر قليلة، واصل بعض خطوات سلفه، ومنها الاهتمام بالتشجير ورعاية الفن المرتبط بالأرض، ومن هنا استدعى أيوب وأبو ماهر ليرافقاه في طائرة الرئاسة إلى مأرب، ويقدما هناك أغنية عن المطر والحقول في فترة تموج بالتحولات والصراعات، لم يستدعِ الغشمي أحداً حينها إلا ارتعش من الخوف.
قال لي أيوب إنه لم يستطع إكمال الأغنية في ذلك الحفل: “شعرت بالاختناق فتوقفت وختمتها في منتصفها”. كان ذلك انعكاسًا لتوتر اللحظة التاريخية حينها بعد اغتيال الحمدي بقدر ما كان إحساساً شخصياً عميقاً لديه أنه يؤدي أغنيته البديعة تلك في التوقيت الخطأ وأمام الرئيس الخطأ.
مثل الفضول، درس عثمان أبو ماهر في زبيد، وارتبطت قصائده بصوت أيوب طارش، وأبدع في كتابة عدد من أجمل نصوصه الغنائية. تميّزه لم يكن بعدد القصائد، بل بنوعيتها وموضوعها. ميزته الأهم هي استلهامه التراث الشعبي المتصل بالزراعة والأرض والمطر والمواسم، بكل ما تحمله من مهاجل ونغمات تعبّر عن المزارعين ونغمات أرواحهم وارتباطهم العميق بتربة أرضهم.
المناسبة هي التشجير ومواسم الزراعة واهتمام العهد السياسي بالأرض وفلاحها والبتول. لكن الموهبة لا تولد من مناسبة. قصائد وأغانٍ بلا عدد تبخرت بعد أيام من ولادتها رغم الدعم والمناسبات والاستدعاءات، لسبب بسيط: أن العمل الفني الذي يبقى لا تقرره المناسبة أو رغبة الحاكم. لكن أشعار عثمان أبو ماهر، الفوّاحة برائحة الأرض، حين تمازجت مع صوت أيوب طارش ونغمات عوده، تحولت إلى أيقونات فنية خالدة في ذاكرة اليمنيين ووعيهم بهويتهم المتجذرة في الأرض.
المطر في اليمن قصة فرح مبهجة للروح يعرفها اليمني من بداية تفتح وعيه وإدراكه للحياة من حوله في بلد شاسع الوديان وفائض بسلاسل الجبال وآلاف القرى المتناثرة في السهول والوديان والسواحل والهضاب. كلما غيمت، وَهَّبْ المطر، نستدعي مهاجل ريفية أزهرت لأجله، وقصائد مغناة هامت تحت أمطاره. نتذكر كلمات عثمان أبو ماهر، وصوت أيوب طارش في تجلٍ نادر أخذ فيه إحساسه بالمطر والحقول، كلماتٍ ولحناً، وذهب به إلى أقاصي الروح المعجونة بتراب الأرض اليمنية مناجياً السماء بصوته الشجي:
شني المطر يا سحابة فوق خضر الحقول..
قولي لمأرب متى سده يضم السيول
وآب يهدي لأرض الجنتين السبول
والبيض تقطف زهور الورد بين الطلول
شني المطر يا سحابة فوق وديانـنا
واروي تراب السعيدة لأجل أجيالنا
-"البالة": ملحمة الأرض
في تاريخ الغناء اليمني، تقف “البالة” في مرتبة عالية كملحمةٍ شعبية، استلهمها من حياة اليمنيين وكتب كلماتها الشاعر مطهّر الإرياني، وأكمل جملتها العالية الفنان علي السِّمة، لتغدو ذاكرة غنائية للتغريبة اليمنية: وجع اليمني وهو يغادر أرضه المثقلة بالقهر والظلم، ويعبر البحار بحثاً عن حياةٍ أقل قسوة بعيداً عن روحه وأهله وذاته المغروسة في ذكريات الصبا في أرضه الغالية.
عثمان أبو ماهر، الشاعر القادم من عمق الريف اليمني، وأيوب، الصوت الذي اختزن صدى الحقول ونبض البتول، قررا معاً أن يقدما نسختهما الخاصة من “البالة”.
اختزلت "البالة"، كلماتٍ ولحناً وصوتاً، حالة وطنية وحلماً شعبياً. أغنية تستلهم حلم اليمني باليمن الكبير، وتحلق به فوق براميل السياسة والانقسام. أغنية تعزف وحدة الأرض والناس، وتحلق فوق حواجز السياسة والحكام:
ياليت وانا طير ما يحمل مرور
شانزل عدن فجر وشامسي في حجور
محد يقول لي علومك والطيور
ولا يسائل إلى أينه؟ من تزور؟
يوم كنت جاهل تجرعت الأمر
من غاب قالوا عدن شلت نفر
واليوم شبيت وعلمني البصر
أن اليمن واحدي بحراً وبر
شعر عثمان أبو ماهر هنا يمزج بين مرارة الحواجز السياسية ووعي اليمني المسنود بإرادة تتوق لتخطيها. وجع الانقسام الذي تجرّعه في صباه، ووعي اليمن الواحد في أعماق الذات الذي يستمد منه اليقين بأن اليمن واحدي، بحراً وبر.
كانت اليمن موحّدة في زمن التشطير؛ موحّدة بحقائق التاريخ والجغرافيا والوعي الشعبي بوحدة الهوية والروح واليمن الكبير.
مُغناة أيوب وأبو ماهر تتمازج مع المطر وجغرافيا اليمن، سيولها وشلالاتها، نشوة رعيانها وأشواق فلاحيها:
بعد المطاره هجس قلبي يقول
علان واراعيه بعد السيول
يا نشوة الرعيان يا شوق البتول
لعيل علان العوالي والسهول
شلال وادي بنا شل العقول
وشل لأبين زغاريد الغيول
وحدة بلادي غني يا حقول
غني لها عانقيها يا سبول
-القصيدة تُكتب في وجدان الشاعر لا في خانة "وظيفته"
لم يأتِ أبو ماهر لكتابة الشعر الغنائي من كلية الآداب، بل من الجيش؛ هذه مفارقة تستحق التوقف عند عتبتها واستقصاء معانيها. الروح المبدعة لا تعرف سلكاً وظيفياً يحاصرها، بل تنبع من مكان أعمق، من تلك البذرة الخفية التي إذا مسّها الحنين، أزهرت قصائد وأغانيَ، من داخل المعسكر ومن أي مكان يعيش فيه الشاعر.
يمكنك أن تختار الجيش، تدرس الهندسة أو الطب، لكن الشعر والغناء لا تحددها وظيفتك أو شهادة تخرجك. الفن، شعراً وغناءً، يبدأ وهجه في داخل الذات، وإذا لم تتقد شعلته هناك لن يكون بمقدور أي دراسة لاحقة أن تخلقه من العدم.
"النغم الثائر" هو الديوان الوحيد الذي صدر للشاعر عثمان أبو ماهر؛ غنّى أيوب طارش ما يقرب من عشر قصائد من هذا الديوان. إلى جانب أيوب غنّى له عدد من الفنانين؛ منهم: أحمد قاسم، عبده إبراهيم الصبري، محمد حمود الحارثي، عمر غلاب، وأحمد المعطري.
في مقدّمته لديوان عثمان أبو ماهر، ذكر الدكتور عبدالعزيز المقالح عدداً من الشعراء، جمعوا مثله بين السيف والقلم:
"وقد عرفت فيما بعد أنه من الشعراء العسكريين القلائل الذين يحاولون الجمع بين السيف والقلم، ويجددون ذكرى البارودي وحافظ إبراهيم من الشعراء العسكريين المعاصرين في بداية العصر الحديث، وكان قد سبقه إلى ذلك من بين شعرائنا العسكريين المعاصرين في اليمن عدد من الشعراء في مقدّمتهم الأستاذ العقيد أحمد المروني، وكان في الأربعينات يُدعى شاعر الجيش اليمني، والمقدّم يوسف الشحاري صاحب المواقف الوطنية والأدبية الحاسمة في السبعينات".
أحياناً، تُزهِر حساسية الشاعر الحقيقي في المعسكر، بينما يخفق مَن لا شيء لديه ليقوله حتى لو تفرّغ للشعر ودرس الأدب، وتفرّغ للتجوال بين مناظر الجمال وفعاليات الأدباء ومجالس الشعراء.
-لغة مأخوذة من الوجدان الشعبي
جمال الشعر العامي يتجلى في بعض قصائد عثمان أبو ماهر. يصنّف "شعر عامي"، بتوصيف الدكتور المقالح. لكنه مكتوب بمفردات مأخوذة من لسان اليمن القديم، قريب من لغة المسند، نابض في ألسنة الناس في السهول والجبال والتهائم.
في قصيدة مثل وازخم وأسمر نلمح هذا المزج بين البساطة الشعبية والعمق اللغوي:
بالله عليك وازخم
لمّلم لي أشواقي
بكر معي من غبش
نغرس على امساقي
زرع المحبة شجر
بكرة هانتلاقي
بين امشجر بامتعاون
نكمل امباقي
عثمان أبو ماهر شاعر غنائي أنيق في لفظه وأسلوبه، غزير الروح في كلماته؛ قصائده لا تقل تميزًا عن أي من كبار الشعراء الغنائيين في اليمن، بل تتفوق عليهم أحيانًا في أصالتها وعذوبتها.
أنهي مقالي وأنا أستمع إلى أيوب طارش يتغنى بكلمات شُبابة الساقية:
من شورك واشوار الزرع زيد بهاك
شوار كفك مخطط وململم خطاك
معك معك شلني الوادي شسقي معك
شلملم الماء شسقي الزرع شروي ظماك
صوت أيوب هنا ليس إلا صدى لروح عثمان أبو ماهر، شاعر المطر والحقول، الذي ترك في ذاكرة اليمنيين إرثاً غنائياً لا يذبل ولا تخمد جذوته مع تعاقب السنين. كل ما هو أصيل وحقيقي يزداد لمعاناً مع الزمن؛ لأنه من طبيعة المعادن الكريمة والنادرة.