مقالات
علمانيون ومتدينون تحركهم الغرائز !
يصمت اليمنيون حين يجب أن يتكلموا، ويتكلمون بصورة جنونية حين يجب أن يصمتوا!
هذه العبارة تصلح منطلقاً للحديث حول انشغالات اليمنيين على الشبكات الإجتماعية خلال اليومين الماضيين وكيف تبدو حالة التيه اليمني عميقة وضاربة في اللا معقول.
ينغمس الناس في التطفل على الفضاء الخاص للأفراد وينصرفون عن مايفترض أنه يشكل جوهر حياتهم في الفضاء العام.
ما الذي يجعل هؤلاء ينشغلون بلباس إمرأة ويتجاهلون ما يمس حياتهم ويشكل مصيرهم في بلد عالق يعيش نتائج حرب ما زالت تفاعلاتها تفصح كل يوم عن مأساة؟
لا تبدو أولوياتنا مرتبة كما ينبغي لبلد يغرق، وليس هناك فاعلون جديرون بمهمة إعادة ترتيب اهتمامات الناس لأنهم أصلاً منشغلون بأولوياتهم أو لنقل مخاوفهم أو أطماعهم.
لا فرق هنا بين المتدين والعلماني، كلا الفريقين تحركهما الغرائز وليس المُثل.
يمكننا أن نسأل : ماهي الأضرار العامة التي سببتها صور المودل اليمنية خلود على حساباتها الشخصية في الشبكات الإجتماعية؟
كم قتلت من الأشخاص في بلد تسيل فيه كل يوم دماء أصبحت أرخص من الماء؟
وكم عرضاً أصابت في بلد ينام ويستيقظ على قضايا هتك أعراض وبيعها والمتاجرة بها؟
هناك آلاف الأسئلة التي تقذف بها يومياتنا عن القسوة والبطش والترويع الذي يلازم حياة الشعب اليمني من أقصاه إلى أقصاه دون أن يجد إنصافاً أو تضامناً علمانياً مؤثراً أو يقظة دينية!
إذا كان الناس ( متدينون ومحافظون ) الذين اعتبروا ما فعلته المرأة وزوجها تعدياً على العادات والتقاليد والتعاليم الدينية، فلماذا لا تستيقظ هذه الحساسية حيال وقائع نالت من كرامة وأعراض وحقوق نساء وعائلات ما زالت طازجة شمالاً وجنوباً؟
قبل أسابيع تعرضت فتاة من أسرة ضعيفة في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي للإغتصاب. الفتاة نفسها تعاني من إعاقة ما يجعل الجرم المرتكب مضاعف، وقد أخذ شقيق الفتاة بثأره وقتل مرتكب الجريمة.
كان تفاعل الناس محدوداً رغم الضرر المروع بحق الفتاة وعائلتها، ولم تتحول القضية إلى رأي عام. بعدها انصرفوا للتفاعل الخافت مع شقيق الفتاة الذي حُكم عليه بدية مغلظة أربعين مرة وإجباره على نقل سكنه، وكان ذلك ما قررته سلطة الأعراف اللعينة ومررتها سلطة الأمر الواقع الألعنَ.
غير بعيد من فستان خلود الذي فتن المتدينون و"خدش الحياء العام"، تعرضت إحدى العائلات في عدن للترويع وجرى اختطاف فتاة من منزلها بقوات عسكرية، وفقاً لتسجيلات ومقاطع مرئية لمناشدات العائلة.
لم تتحول القصة إلى ترند، لم تستثر حفيظة المتدينين ولم يعلق العلمانيون.
"العقل الإله" الذي يحرك العلماني يبدو أنه لا يكترث بكرامة الناس ولا بحياتهم خصوصاً في المناطق التي تربطهم بسلطاتها المتعددة صلات أو إعجاب من نوع ما، فهم متخصصون حصرياً في الدفاع عن الحق في استعراض المتع ونقد مظاهر التدين!
أما المتدينون، فلم يروا جسداً " مثيراً" يشعل حناجرهم، أو أن كلفة التعاطف مع هتك عرض عائلة قد تكون أكبر من التصور!
هذه فقط أمثلة طازجة للواقع التعيس وهناك ما هو أفظع تحت سلطة الحوثي وانتهاكات عديدة في مناطق الشرعية بتعدد لافتاتها.
مع ذلك فإن التفاهات هي من يحرك النقاش العام وتشكل مواقف الناس.
يومياً يتعرض اليمنيون لأقسى امتحانات حياتهم في الأمن والمعيشة والصحة والإقتصاد والسياسة ويندفع البلد يومياً من سيئ إلى أسوأ. يحدث ذلك دون مكابح دينية أو علمانية!
يمكنك أن تلحظ أن نقاش المحافظين حيال نشر صور الحياة الشخصية للمرأة اليمنية مدفوع بمزاعم الخوف على النساء من التقليد أوتأثير السلوك المنفتح على " أخلاق المجتمع" !
تكشف هذه الذرائع عن هشاشة وبؤس، فرجل الدين والشخص المحافظ والعلماني على السواء، تتعرض عائلاتهم لسيل جارف من التأثيرات الهائلة في الملبس والمأكل والثقافة في كل دقيقة عبر جهاز لايفارق أيديهم حتى المنام، وهو ألصق بحياتهم من أي شيئ آخر.
كما أن محتوى الفضائيات الذي نتعرض له جميعاً جعل مما تفعله المودل خلود أمراً محافظاً!
هذا الوضع الذي تفرضه التطوارت الهائلة في التكنولوجيا والمعارف، لا يمكنك الفرار منه، ولا ينفع معه الوعظ والزعيق عبر الشبكات الإجتماعية نفسها أو حتى عبر منابر المساجد، لأنك ستفرغ من الخطبة لتتصفحها في الشبكات الإجتماعية مع نفس المظاهر " المخلة" التي تتحدث عنها!
لقد أطلقت الدول التي أنتجت هذه التقنيات منذ أكثر من عقد برامج للتربية الإعلامية وتركوك خلفهم تمارس الزعيق الذي لا ينتج عنه سوى المزيد من التخلف التقني والمعرفي والتربوي أيضاً.
هذه البرامج اشترك في صياغتها خبراء في التربية وعلم النفس والاجتماع والإتصال والإعلام، في محاولة للحد من الأثر الذي تتركه وسائط الإعلام المختلفة على حياة الناشئة والمجتمع بصورة عامة، بتعليمهم كيفية التعامل معها.
مقابل زعيق المتدينين الذي يسلط الضوء على تصرفات تافهة ويجعلها مادة لخطابهم،لا يبدو العلماني عقلانياً بالمعنى الذي يجعل الحرية هي رأس ماله بما هي قيمة عليا توجه مواقفه.
أتحدث هنا عن العلماني اليمني المزعوم وهو يرطن بأكاذيبه بينما يعيش حالة من الفصام بين سلوكه وأقواله.
يكرس العلماني اليمني نفسه للحديث عن الحريات الشخصية تحديداً وهو مستعد لأن يكون في نفس الوقت أداة بيد المستبد وكرباجاً لضرب خصومه وإظهار عدائه للتدين الإجتماعي بصفة عامة.
في الحريات الشخصية يفاخر بالعري باعتباره أهم "ركائز" الحرية الفردية وأغلب هذا الصنف لا يرى في حرية المرأة أكثر من جسدها، مفضلاً أن يكون في متناوله واقتناص اللحظة للاستمتاع به.
في نفس الوقت، يحرص هذا العلماني العجيب، على إخفاء حياة زوجته وشقيقاته عن عيون الناس، ونادراً ما تجد علمانياً يمنياً متصالحاً مع إدعاءاته في التحرر النسوي، داخل عائلته، بالصورة السطحية التي يراها في مظاهر العري وحرية التصرف بالجسد.
على أن حرية الإختيار التي يدعو لها سرعان ما تصيبه بالجنون، حين يشاهد فتاة أو فنانة مشهورة قررت ارتداء غطاء الشعر أو الحجاب، رغم أنها تمارس حريتها الشخصية!
قناعتي أن التعري واستعراض الجسد، هو شكل آخر من الإساءة للمرأة نفسها ولعقلها.
قبولها بتقديم نفسها في إطار هذه الصورة تجعلها مذعنة للأدوار التي رسمتها لها قيًم السوق وسلعنتها وتشييئها وتحويلها إلى أداة للإغراء وجزء من لعبة الإستهلاك العالمية الضخمة.
لكن ذلك لا يمنح الحق لأحد في ممارسة الوصاية على اختياراتها لأنها هي الوحيدة التي ستدفع الثمن المباشر لهذا الإستغلال، وإذا تجاوز طال الأسرة.
قبل ذلك وبعده لا تستحق مثل هذه السلوكيات الشخصية أن تكون مادة للنقاش العام، وكأن هناك من فجرها ليصرف الناس عن ماهو أهم وأخطر.