مقالات

علي عبد المغني التاجر - 11

06/09/2025, 17:18:15

بعد موت خطيبتي تغريد وفشل مشروع زواجي، ذهبتُ إلى صنعاء ومعي مذكرة من رئيسي في العمل إلى رئيس هيئة الأركان بشأن ترقيتي من عسكري إلى رتبة رقيب. 

ولأن آخر محطة توقف فيها السائق هي "باب اليمن"، فقد دلفتُ إلى صنعاء القديمة وفي ظني أنها صنعاء العاصمة، ودخلتها مع دخول الظلام.

وأول ما عبرتُ من الباب رحتُ أسأل أصحاب المحلات عن مكان أنام فيه، فأشاروا إلى مكان اسمه "سمسرة". وكانت كلمة سمسرة قد أثارت في نفسي شيئًا من الشك، وبدت لي كلمة مخيفة، لكني وقد أطبق الظلام على المدينة دخلتُ السمسرة. وبعد أن دفعت أجرة المبيت أعطاني صاحبها فرشًا مهترئًا، وشملة متسخة، وزاوية أنام فيها.

ولأنني كنت متعبًا من السفر فقد استلقيتُ وأغمضتُ عيني، وبعد أن نمت قرابة ساعة أو ساعتين استيقظتُ وأنا مرعوب.

وعندما سمعني صاحب السمسرة ظن أن هناك خطرًا يتهددني، فاقترب مني، وراح يسلط الضوء على فراشي وشملتي. وعلى ضوء مصباحه اليدوي رأيتُ شيئًا اقشعر له جسدي وأثار اشمئزازي:

رأيتُ رتلًا من الحشرات يزحف فوق فراشي.

فقلتُ له وأنا مرعوب:

"إيش هذا؟".

قال لي: "هولا كُتًنْ سَعْلَيْك". وراح يسحقهن بسبابته ويعلمني كيف أقتلها، وأتخلص منها. وكانت تلك أول مرة أتعرف فيها على تلك الحشرة البغيضة "الكُتَنَة". 

وليلتها نصحني صاحب السمسرة بأن أشتري لي كيس نوم كي أحمي نفسي منها. 

وعلى ضوء مصباحه رأيت الجميع في السمسرة مدرعين بأكياس نومهم وجميعهم يغطون في النوم وهم في أمان من شر الكُتن والقَمل.

أما أنا فلشدة خوفي واشمئزازي من تلك الحشرة البغيضة لم أنم ليلتها.

وفي الصباح، خرجتُ من "سمسرة الكُتن" ودخلتُ المدينة القديمة، ورحتُ أسير في دروبها كالمهبول، وأقف مذهولًا ومندهشًا من علو وجمال بيوتها المزخرفة بالجُص، ومن جمال الأبواب والشبابيك والقمريات. 

وشعرتُ وأنا أسير في أزقتها كما لو أني أسير في مدينة من تلك المدن الخرافية التي كان أخي سيف يحكيها لنا ونحن أطفال في القرية.

لكن بعدما تهتُ في أزقّتها ولم أجد مخرجًا بدت لي صنعاء القديمة أشبه ما تكون بالمتاهة. 

وبعد أن كنتُ أسير وأتطلع في جمالها ومحاسنها، رحتُ أخبط السير وصار كل همي هو كيف أخرج من هذه المدينة المتاهة. 

وكنتُ كلما وجدتُ مخرجًا تحول فجأة إلى مدخل. 

ولأكثر من ساعتين وأنا أخبط فيها، وكانت مخارجها تتحول بقدرة قادر إلى مداخل وتعيدني إلى الداخل وإلى الأماكن نفسها التي خرجتُ منها.

وبعد أن فشلتُ في الخروج منها، راح شعوري بالضياع يتفاقم، وعندما كنتُ أسأل أهل المدينة كانوا يتوهونني بكلامهم ويربكونني بطريقتهم في الحديث عن الاتجاهات. 

وفي إحدى المرات، وقد عدتُ إلى المربع الموازي للجامع الكبير، اقترب مني صنعاني عجوز، وقال لي، وقد رأى الضياع في وجهي:

"من أين أنت يا ولدي؟".

قلتُ له: "من تعز".

قال لي: "أَيحين جيت؟".

قلت له: "أمس المغرب".

وحينها عرف أنني دخلت صنعاء القديمة بالخطأ، وطلب منّي أن أتبعه. وفي الطريق راح الصنعاني العجوز يحدثني عن صنعاء الجديدة، وقال إن أصحاب البلاد يقيمون فيها، وهناك يمكنني أن أجدهم. 

ومنه سمعت لأول مرة عن علي عبد المغني، لكن علي عبد المغني الذي حدثني عنه كان علي عبد المغني الشارع. 

وبعد أن أوصلني إلى الشارع، رأيت شارعًا حديثًا ونظيفًا ومسفلتًا ومستقيمًا في غاية الاستقامة، وفيه عمارات ومحلات تجارية فخمة كتلك التي كنت أراها في عدن.

ومن اسمه - شارع علي عبد المغني - عرفتُ أن علي عبد المغني تاجر يملك الشارع بما فيه من دكاكين ومحلات تجارية. 

ومما زاد في يقيني أنه تاجر هو أنه في تلك الأيام لم تكن الشوارع تسمى بأسماء أشخاص، فضلًا عن أن اسم الأب "عبد المغني" كان قد أوحى لي بالغنى والثروة. 

ولعدة أشهر ظل علي عبد المغني في نظري أكبر تاجر في صنعاء، ولم أعرف أنه شهيد وثائر إلا في عيد سبتمبر عندما قرأت اسمه في جريدة الثورة.

أول ما وضعتُ قدمي في شارع علي عبد المغني، رحتُ أذرع الشارع ذهابًا وإيابًا، وأبحث في وجوه المارة عن وجه معروف أو مألوف.

وبعد أن ذرعته عدة مرات ولم أبصر أحدًا من أبناء قريتي، دخلتُ منتزه التحرير، وطلبتُ واحد شاي، وبقيتُ في المنتزه إلى ما بعد العصر، ثم عدتُ إليه ثانية، ورحتُ أذرعه من جديد.

وعند دخول الليل، بدا لي شارع علي عبد المغني في ضوء الكهرباء كأنه الشارع الوحيد المضاء في العاصمة صنعاء، أو كأن صنعاء هي شارع علي عبد المغني.

وبعد أن ذرعته عشرات المرات، في ذلك المساء، وجدتُ نفسي أمام "سينما بلقيس". 

ولحظة وجدتُ السينما تبخر إحساسي بالوحشة والغربة، ذلك لأن السينما كانت في نظري هي الجَنّة. 

وليلتها قطعتُ تذكرة ودلفتُ إلى الصالة، وكان اسم الفيلم "زوربا اليوناني". وأول ما وقع بصري على اسم الفيلم تذكرتُ صاحب المخبز اليوناني في عدن وزوجته السمينة، وابنته الجميلة التي كان مرورها في الشارع يتسبب في حالة غليان وفوران وهيجان.

وبعد خروجي من السينما، عدتُ إلى منتزه التحرير، وسألتُ العمال عن مكان رخيص يمكنني أن أقضي فيه ليلتي، فأشاروا لي إلى لوكندة قريبة. وبعد أن دلفتُ إليها، ووضعتُ صُرة ملابسي فيها، ودفعتُ ثمن المبيت، خرجتُ وأنا أرتجف من شدة البرد والجوع، وذهبتُ إلى مطعم في ميدان التحرير اسمه "مطعم النجاة". وفيه تعشيتُ واحد فاصوليا، وكانت الفاصوليا التي أكلتها في مطعم النجاة ألذ وأطعم من تلك الفاصوليا التي عزمني عليها الشخص الذي استقطبني للحزب الديمقراطي.

لكنني وقد طردتُ الجوع لم أتمكن من طرد البرد الذي راح يجلدني طوال الليل. ومع أن اللوكندة كانت خالية من البَق والقَمل إلا أن صاحبها كان أبخل من صاحب السمسرة، فقد قدّم لي بطانية خفيفة لا تسمن ولا تغني من برد.

 

مقالات

تشرشل والعليمي

لم يجد تشرشل وقتًا للجلوس على موائد مع من قد يخرجون لاحقًا للحديث عنه ومقارنته بزعماء آخرين. وإن وجد الوقت، كان سيرفض الجلوس. عبقرية القادة وطبيعة اهتماماتهم الكبرى تمنحهم حساسية بالغة تجاه أولئك الذين يختزلون كل شيء في مائدة دسمة ومقابلة عابرة.

مقالات

"يا أخي اتخارج".. كيف لخص محمد عبدالولي مأساة اليمني في عهد الإمامة؟

في مجموعته القصصية "شيء اسمه الحنين"، وفي قصة بعنوان: "يا أخي اتخارج"، يلخّص محمد عبدالولي معاناة اليمني في عهد الإمامة، وكيف كان عسكري الإمام يعبث بالمواطن دون أي سبب، يتهجم إلى منزله، ويستدعيه للحضور إلى مسؤول الإمام.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.