مقالات
علي محمد زيد و"عزاف الأسى- البردوني" (1-2)
أصدر الدكتور علي محمد زيد كتابه "البردوني عزاف الأسى". الكتاب دراسة شاملة لحياة وجميع أعمال الشاعر والأديب الكبير عبد الله البردوني.
الدكتور علي محمد زيد باحث أكاديمي، وناقد، وسارد، ومترجم. أبحاثه عن الفكر المعتزلي من خلال كتابيه: "تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري، و"دولة الهادي وفكره" من أهم الأبحاث العلمية. وفي الأول دافع عن الفِرقة الزيدية المطرفية، التي تعرضت لما يشبه حرب إبادة على يد الإمام عبد الله بن حمزة.
له العديد من الدراسات والأبحاث، وهو ناقد أدبي. ترجم باللغتين: الإنجليزية، والفرنسية العديد من الإنتاج الفكري والأدبي، وله أربع روايات. كتابه "البردوني عزاف الأسى" من أهم الدراسات، إن لم يكن الأهم؛ لتفرُّده بدراسة حياة وسيرة وتراث الشاعر الكبير الأستاذ عبد الله البردوني.
تتبع الباحث نشأة البردوني في ريف ذمار "بردون" -القرية البائسة حد المجاعة؛ في العقد الثالث من القرن العشرين- وإصابته طفلاً بالعمى، وكفاحه المرير، وإبداعاته شعراً ونثراً، وصداقاته، وخصوماته، وتتبعه لحظة بلحظة، وخطوة بخطوة من المهد إلى اللحد.
يقع الكتاب المتوسط الحجم في 373 صفحة. تبدأ السيرة البائسة بتمهيد: "مأزق وجود"، والكفاح المجيد بمقدِّمة: "المعرفة إنقاذ، والشعر تحليق في الذرى".
الباحث الماهر، والناقد والسارد الدكتور علي محمد زيد يغوص عميقاً في عطاء البردوني، وإرثه العظيم، وكنوزه الشعرية والنثرية. ويقرأ مسار حياته من الأشد بؤساً وفقراً، إلى صدارة المشهد الأدبي والثقافي، ليس في اليمن والوطن العربي، بل عالمياً.
يربط الباحث زيد عميقاً ما بين تعاظم محنة البؤس: العمى، والفقر، والتشريد، ومقدرة البردوني طفلاً ويافعاً وشاباً وكهلاً، على الصبر، والإبحار نحو المعرفة -القوة-، كما يسميها بيكون، والفرار من الأمية -السوأة-، كما يراها أبو حامد الغزالي.
كان الشعر العصى السحرية التي ضرب بها البردوني بحر الأمية والفقر، ومحيط العمى؛ حتى انفلق، وعبر من خلاله إلى عالم الثقافة والفكر وعالم الشعر؛ وليصبح الأكثر إبصاراً من معاصريه.
موهبة زيد إخلاصه للبحث؛ فقد تتبع البردوني في رحلته منذ الطفولة، وانتقاله إلى منزل أخته في القرية الأخرى (المحلة)، ورعيه للأغنام، وهو الأعمى، والصغير في بيئة وعرة شديدة الخطورة على المبصرين، وتعشقه للتعلم، وانتقاله إلى القرية الكبيرة ذمار.
كما يقرأ الباحث الرؤية الازدرائية للأعمى في بيئة شديدة الفقر والجهل والقسوة، حيث القيمة الوحيدة فيها لحامل السلاح أو الأقوى.
يصف شغفه بالقراءة في ذمار، وفيها خفق قلبه للحب. سجن؛ لأنه يتدخل فيما لا يعنيه، وكنَّ نساء ذمار أرحم به من رجالها. حفظ آلاف الأبيات من الشعر، وأتقن في زمن قياسي الشريعة وألاعيب الأحكام القضائية. تصدى في المحاكم لنقض الأحكام، وسجن؛ لأنه تسبب في نقض حكم عمده الإمام يحيى، ومهره بختمه.
يدوِّن الباحث تفاصيل تفاصيل حياة البردوني في ذمار، ففيها عمل في البداية سقاءً يوصل المياه إلى المنازل، ثم وكيل شريعة لاحقاً. يعتبر الباحث ذمار أول الغيث.
في مطلع التكوين بداية التحدي: طريق العذاب، والمعاناة بعد أن رحل من قرية أخته المتزوجة، وفقدانه مدرس قرية المحلة. يعود الفضل لذمار في تكوينه النفسي والثقافي، بحسب قراءة الباحث، رابطاً بين الشغف بالشعر، وانتعاش قصائد الشعراء الأحرار، وتحدي نظام الاستبداد.
لذمار حضور كبير في وجدانه. وفي مذكراته التي اعتمد عليها الباحث، يقدم البردوني قراءة معمقة للمدينة، وريفها، وتاريخها، وواقعها في أربعينات القرن الماضي.
محطتان مهمتان في حياة البردوني -كما يرى زيد-: المدرسة الشمسية في ذمار، والمدرسة العلمية في صنعاء. اهتمامه بالبحث بلا حدود، وحبه للمعرفة والشعر هما طريقه لتجاوز محنة العمى، والعبور إلى المجد والشهرة.
يدرس الباحث جل أعمال البردوني النثرية والشعرية، وتكون مذكراته "تبرج الخفاء" وإصداراته الكاثرة، ودواوينه الشعرية، وهي المراجع الأساس للبحث القيم والمهم.
يدرس بحثه المضني عن مصدر للعيش في ذمار، وموقفه من حركة 1948، وما ترتب عليه، الذي ابتدأ بتأييد ولي العهد أحمد، وانتهى بالمعارضة والسجن.
يقظة الضمير، ورفض هدم الإمام الجديد للمنازل، والقمع، والظلم، دفع به إلى المعارضة. كان البردوني من قراء "صوت اليمن"، وتتبع أخبار المعارضة في عدن؛ فهو -كما يصف نفسه- يحب السير على الحرائق، والباحثين عن المتاعب؛ وهذا ما لم نفطن له نحن تلاميذه البلداء الذين ننجر إلى انتقاد بعض أطروحاته المثيرة، وهو يضحك منا وعلينا. حَمَّله وجهاء مدينة ذمار وزر المعارضة للمدير الجديد في ذمار؛ فسجن، ونقل إلى صنعاء، فيرفضه سجن القلعة، ويرسل للرادع؛ فيجد نفسه شريداً، سجين العمى، والفقر، بلا مأوى ولا معين، وبإباء يرفض طلب العفو؛ لأنه لم يذنب.
ينظر البردوني إلى 1948 كمفترق غامض. فهل هي ومضة، وتوثب إلى الغد، أو أنها قاعدة التفات إلى الأمس.
"صعود من القاع عودة إلى نقطة البداية" -يعنون الباحث بداية البردوني في صنعاء. يرقد البردوني في المستشفى -المستوصف- مجازاً، وينسج علاقة طيبة مع الأطباء، وفيه يتعرَّف على الزائر المريض عباس الوزير؛ فيأخذه إلى منزلهم في القاع؛ لتعليم إخوانه، بعد أن رفض المعلمون تدريسهم خوفاً من غضب الإمامة.
يدوِّن بحب وألم استضافته لأكثر من عام ونصف في منزل آل الوزير. مثنيًا ثناءً عاطراً على أمهم ابنة أبو راس التي يسميها بحق "أم المؤمنين"، وتكون مدرسة دار العلوم بداية الانطلاق، ووسيلته للخروج من انسداد الأفق؛ فدار العلوم هي المدرسة الوحيدة التي تؤهِّل طلبتها للوظائف الحساسة، ومجال القضاء، وقد حلت محل دار العلوم التي أنشأها الأتراك. يصف البردوني حال التعليم في البلاد، وكأنها تعيش قبل ألف سنة أو يزيد، ويرى الباحث زيد أن البردوني رغم دراسته في ذمار، وفي دار العلوم، فقد كان دائماً معلم نفسه، ويقدم البردوني وصفاً للكتب التي كانت تدرس حينها، وقد رشح لتدريس مادة الإنشاء، وهو لا يزال طالباً، ولكن الأمير الحسن رفض مجرد ذكر اسمه؛ لأنه كان سجيناً.
يدرس الباحث -كناقد- تجربة البردوني الشعرية، فيرى أن اكتشاف البردوني للمعرفة، وبخاصة للشعر في بداية الدراسة في ذمار حاسماً، ويتوطَّد بمرور الأيام، ويأتي على ذكر قصيدته في هجاء عبد الله حمران، وتخليه عن الهجاء.
يصف البردوني طقوس نظم الشعر وحفظه. فهو يختلي بنفسه، ويتحسس مشاعره، ويرسم الصورة الشعرية في مخيلته، ثم ينقلها إلى أبيات شعرية، وبعد أن تكتمل القصيدة يمليها على من يساعده في الكتابة.
يصفه زيد بأنه يتمتع بموهبة نادرة في الحفظ بين الشعراء المكفوفين، لا بل والمبصرين، وقد أسعفته ذاكرته في حفظ الكثير من قصائده، كما يتناول زيد -كناقد- قصيدة "من ذا هنا؟"، المنشورة في ديوان "طريق الفجر"، والتي يعود تاريخها إلى عام 1953، ويذهب إلى أنها تجسد معلمًا ملحوظاً على طريق الوعي بالواقع المر الذي يعيشه الشعب، والاحتجاج على الظلم والاستبداد.
ويذكر الناقد أن حذر البردوني هو ما مكَّنه من حضور التعزية بوفاة الملك عبد العزيز. ابتعد عن قصيدة الهجاء، والرثاء، وأثبت وجوده في المدرسة كمعلم مهم، وبدأ يرتاد المقايل في بيوت الأسر الكبيرة كبيت زبارة، وعبد الكريم الأمير. اندهش الجميع من ذكائه، وشاعريته، وسعة اطلاعه.
وصول مجموعته الشعرية من أرض بلقيس 1961 عززت ثقته بالنفس، ومنذ ذلك الحين، بحسب رؤية الناقد، أصبح في مقدمة الشعراء اليمنيين، وأحد أبرز الشخصيات في الصفوف الثقافية الحديثة.
يشير الناقد إلى تأثره بالحركة الثقافية في مصر: طه حسين، وإبراهيم ناجي، وحافظ إبراهيم. يواصل البردوني البحث في الحصول على فرصة عمل؛ فهو خريج "غاية السول في علم الأصول"، ليحيى بن الحسين، وهي أهم مصدر في أصول فقه الزيدية، وقارئها يكون مؤهلاً للقضاء، أو أي وظيفة في عهد الإمامة.
يقفز الطالب المجد من تلميذ إلى أستاذ في زمن قياسي. يقدم وصفاً دقيقاً لدار العلوم، وللمنهج، وللكتب، وللأساتذة، وكيف انحاز إليه الطلاب، واعترف المدرسون بقدراته.
عندما فتحت الإذاعة عام 1957 كان الاحتياج إليه أكبر من احتياجه إليها. يتذكر طاقم الإذاعة، والتحاق المقالح، وتزامله وصداقته مع حمران، ومحمد الشرفي، والتنافس حد الخلاف.
يتناول الباحث، ومن خلال قراءة مذكرات البردوني "تبرج الخفاء"، تفاصيل زيارة سعود لصنعاء، وقصيدة البردوني، وموقف البردوني من المرأة، ويدرس الباحث عميقاً "البردوني الثاني".