مقالات
عن الشاعر السعيدي وديوان "أغنية راعي الريح"..
يتنقّل عامر السعيدي في ديوانه بين مواضيع شتّى، ببراعة عالية، من السياسة، إلى الحب، يقترب من شؤون النفس، أحزانها وأشواق وجودها العالية.
من هموم البلاد الضائعة، يسافر بك ثم يهبط على أغصان العاطفة، وفي كل حركة ينقلك فيها من موضوع إلى آخر، لا تكاد تلحظ أدنى انقطاعة في النَّفَس، لا وجود لتلك الفجوات في نسيج اللغة بين موضوع وآخر. وتلك مهارة عسيرة لا يُتقنها شاعر بسهولة.
براعة السعيدي تتجلَّى في اتساقه الباطني، هناك رؤية موحَّدة في شعره.
يبدو متذبذبا أحيانا بين مشاعر خليطة، لكنه وفي كل لحظة حيرة وجدانية يختتم قصيدته بتأكيدات تحسم قناعته. ثوريّته واضحة، إنه مقاتل تتدفق جبال "حجور" في نسيج روحه، وتمنحه صلابة عالية، رجل عركته الحياة ولا يمكن أن يصيبه الوهن، أو يتعطّل في منتصف الطريق.
"نحن اشتهاء الأعالي، نحن عفَّتها، حتى رضى الله لم نطلبه إذعانا"
بسهولة تتأكّد لك قوة ارتباط السعيدي بالكلمة الشعرية، حتى وهو منخرط في قلب الشأن العام.
لم تنثلم شاعريّته. هذه الحالة تتطلب قُدرة عالية على تدبير الشاعر لعوالمه الداخلية. إنها مهمّة عسيرة للغاية، يدركها من يشتغلون في حقول الكتابات الإبداعية. تلك المكابدة الدائمة، للاتصال بالحبل السِّري للكلمة والنجاة من فخاخ اللحظي.
من السهل أن يحتفظ الشاعر بكينونته ولغته صافية طالما وهو منحبس داخل جو شاعري خالص، لكن ما ليس سهلا بالمطلق قدرته على الموازنة بين حضوره العام كمواطن ومثقف فعّال في قلب الواقع المحطّم لبلاده، مع احتفاظه بخيط الشعر عاليا، يتعهّده ويرعاه باستمرار، وكلّما نضجت القصيدة في ذهنه؛ يأتي إليها ويجدها بكامل جاهزيّتها، شاعرية كلحظة ميلادها في الخيال، متأهبة للخروج، خالصة من شوائب اللغة اليومية وآثار الواقع السياسي المشوّه، ونشاطاته المستهلكة. لكأنه يحضر في قلب اليومي، مع بقائه متصلاً بدرجة وثوقية عالية مع مصادر الكلمة الخالدة.
أداوم على قراءة الشعر بشكل دائم ومرتب، إن لم يكن يومياً، ففي أعلى تقدير، لا يمر أسبوع دون ليلة خالصة لوجه الشعر. أنتقي من الشعر أكثره خلوداً، أُمسك فيه بديوان شعري وأتحرك معه كلمة كلمة، بيتاً بيتاً، وقصيدة فقصيدة، ولا أكتفي بمجرد قرأتها، مهما كنت قد استوعبتها، إذ لا يرضيني ذلك حتى أصل لمستوى أشعر فيه بأني دخلت في الحالة نفسها التي كان عليها الشاعر حين قال قصيدته، لا أقرأها من خارجها، بل أجتهد للدخول في القصيدة ذاتها، أجري معها كما تدفقت لحظة ميلادها.
يتفاوت الوقت الذي أحتاجه؛ كي تتلبسني القصيدة أو أتلبسها، لا أدري أيهم يدخل في الآخر، وهذا التفاوت الزمني يعود لأمرين: درجة التهيؤ النفسي والذهني لديّ، وقدرة الشعر على أن يمنحني تلك الوحدة النفسية العالية بظرف قصير.
وفي نشاطي هذا، حدث معي ولمرات كثيرة، حين أسافر مع قصيدة عامر، أجدني منذ اللحظات الأولى، ما قبل اكتمال القصيدة الأولى، بعد مرور زمن قصير، أشعر بأنني صرت في قلب كلمته، إنها تتّخذ موضعها في النفس والخيال بلحظة خاطفة، تنظُمك بقوة شد عالية، وتُعيد ترتيب عوالمك الداخلية، كما لو أن بينك وبينها رابط قديم، كما لو أنها تحوي البيان الأول لوجودك، وكيف يجب أن تؤسسه.
تختصر قصائد عامر الطريق بقدرتها السرعية على تهيئتك للدخول في جو الكلمة الشعرية. وتلك ميزة جوهرية في ديوانه.
وبعيداً عن اللغة النقدية الميكانيكية في توصيف طبيعة الشعر -مهما كانت هي الأخرى مهمة- أجدني أميل إلى تشريحه بلغة قريبة منه. وبلغة الفلسفة أقول إن ما تحدثه قصائد عامر هو أنها تؤدي مهمتها الوجودية الأصلية -بمستوى معين-، مهمة الشعر:
"تهيئة الأرض للحياة، تهيئة الوجود البشري للعيش، تهيئة النفس لفتوحات جديدة"، بحسب هايدغر.
وتلك وظيفة الشعر المركزية، وهي، في اعتقادي، مقياس قوة الشاعرية في أي قصيدة تقرأها، وفي أي زمان ومكان.
ليس المجاز بألغاز مبهمة لا تجد النفس ولا الذهن مدخلاً إليها، الشعر قرين السلاسة، ذلك هو جوهره، وقد نحتمل غموضه أحيانا قليلة في مواطن محدودة، تقتضيها الفكرة والصياغة العسيرة، لكننا نفعل ذلك على مضض، آملين أن يتلاشى المبهم في البيت القادمة.
ما لم سنرمي الشعر، ونبحث عن الألغاز في مجالات أخرى من شواطئ المعرفة.
غير أنك حين تكون برفقة عامر وقصيدته فلن تشعر بالغربة. يسيل البيت الشعري منه ويدخل مباشرة نحو زاويته المخصصة في الذهن، لكأنه يكتب لك، وهذا ما يؤكد أنه كان يكتب لنفسه. فكلّما نجح الشاعر في صياغة أدق انفعالاته خصوصية، كان ذلك دليلا على كونيّته. والشعر الأصيل كوني الهوية دوما. ما هو خصوصي جدا -متى تمكّن الشاعر من صياغته- يغدو قابلاً لأن يكون نشيدا للعالم.
لقد قيلت قصائد عامر؛ كي تبث حياة في كل مكان تمر عليه، وتصبح أغنية مشاعة للجميع. للراعي والراعية، للفلاح والعامل، للقرية والمدينة سواء بسواء، ليس لليمني وحده، بل ونشيد للأعراب أجمعين متى عرفوه.
من أول قصيدة تقرأها في ديوان "أغنية راعي الريح" حتى آخر قصيدة، سترافقك ميزة جوهرية في شعر عامر. ميزة واضحة، إنه يُقيم في المناطق البسيطة والواضحة من جغرافيا اللغة، يمكث قرب النبع، يغرف بسهولة ويسقيك دون كُلفة. وتلك هبة الشعراء الأثرياء، من يملكون حقول الكلمات الأساسية، المواد الخام لصناعة العالم، هؤلاء وحدهم من لا يحتاجون إلى التعليب والتصنيع، لا يجرحون شاعريتهم بأدوات من خارجها، ولا يحتاجون لإسناد قصائدهم بما هو غريب عنها.
إنهم لا يُرهقونك ولا يدفعونك إلى التشنج وإعلان حالة الطوارئ الذهنية؛ كي تدفع ثمن فهمك لشعرهم. بل يمنحونك طاقة إضافية مجانية كلّما قررت أن ترتاد جداولهم.
"على الهوى
تعزف الأنثى فننسجمُ
كأنها شهقةٌ في العود أو نغمُ
تمرّ من كل معنىً
في قصيدتها
كما يمرّ من الأسطورة الحُلُمُ
تاجٌ على
غُرّة التاريخ من سبأٍ
وقصةٌ كلّ شيءٍ قبلها عدمُ".
لهذا تشعر بالألفة معهم، إنهم يشبهونك وتشبههم، وتلك شاعرية ملتصقة بالطبيعة، ليست الطبيعة الخارجية عن الإنسان، بل طبيعته هو كشاعر وطبيعتك المماثلة له. وتلك مصدر سلاسته، سلطته ونفوذه، إنه يستند لذاته، ويعيد تعريف العالم وهو ماكث في داره.
من ناحية أسلوبية، يلاحظ قارئ ديوان "أغنية راعي الريح" قدرة أسلوبية تنويعية في بناء القصيدة لدى الشاعر، فهو لا يتبع نمط الشعر التقليدي ذا الإيقاع والوزن الرتيب، بل يتعداه -في حالات قليلة- نحو تحريك إبداعي لبنية القصيدة، مع احتفاظه بالوزن والإيقاع دون أن يحبسه في الشكل القديم وحده "التفعيلة الحرة".
هذه الخصيصة، تكشف درجة تملّك الشاعر لأدواته الشعرية، وتفصح عن قدرة لتجاوزها وتذويبها، نحو أوعية أكثر انفتاحا على المعنى وقدرة على صبّه كما يرغب خيال الشاعر، لا كما تضطره إلى ذلك الخطوط المرسومة بدقّة.
"على دمعة في خيال الغياب
ينام الإله الصغير
ويحلم مثل النبي الطريد
بكسرة خبز
يسد بها رمق الوقت
قبل انهيار الطريق
وقبل انقطاع الهواء".
أخيراً: ليس عامراً وحده، بل وكل شعرائنا وجدوا أنفسهم في واقع ضاغط يلتهم مساحتهم الشعرية، وبقدر ما كابدوا للإفلات منه أو تحويله لحالة شعرية جيّدة، لكنهم ظلوا محكومين به. مضطرين إلى سد فراغات كثيرة والدخول في معارك مصيرية، تتعلق بالأوطان والهوية وقضايا الشعب والدولة والأرض، وهي مواضيع مركزية؛ لكنها -كما يصفها المسكيني- ليست شاعرية إلا عرضاً. في الحقيقة، يمكن تحويل كل شيء لموضوع شعري، متى كان الشاعر خصب المخيلة، لكن ما هو مهم ألا يفعل ذلك اضطرارياً، ولو بشكل لا شعوري. مع صعوبة أن يكون الأمر كذلك في حالة شعراء يعيشون حياة مستباحة ويجدون حياتهم مهددة، وبما لا يتيح لأنفسهم، فضلا عن شاعريتهم، أن تنجو، أو تدّعي الاختيار التجريبي الحر.
"إنّ للشاعر قدره الخاص"، وعليه أن يكون مشدودا له بشكل دقيق، وباحتراس عالٍ، عليه أن يفحص هواجسه، لا وعيه العميق، ومن أين تسرّب له الموضوع. ذلك أن كل تدخّل واقعي في هويته الشعرية؛ يُعرِّضها للتشويش.
أتحدث عن الشعر الخالص، قياسا لما يتعرّض له شعراؤنا من اقحام واقعي متعسّف، فالانخراط الدائم في الدفاع عن القضايا يخفض من تطابق الشاعر مع جوهره الخالد أو قدره الوجودي الرفيع.
"لكنّ الواقع هو أنّ شعراءنا قد كتبوا دوماً تحت اضطرار أخلاقي ووطني مريع، ولم يتفرّغوا لتجربة بشكل كلي لأنفسهم الجديدة إلاّ نادراً".
وعليه، إن كان هناك من ملاحظة يمكن قولها على ديوان "أغنية راعي الريح" فستكون أمرا متعلقا بمضامينه الشعرية، هناك آفاق كثيرة، لم يرتدها الشاعر بعد، الوطن ومآلاته والحب وهمومه، أبرز ثيمتين استحوذتا على خيال الشاعر، وما يزال أمامه مساحات كُثر، تنتظر أن يطلق روحه فيها، ويجرّب قدرته على استكشاف معانيها الخالدة. هذا الديوان هو مفتتح "عامر السعيدي"، ومن نظرة عامة عليه يتأكد القارئ أن ما يختزنه الرجل أكثر مما قاله. "إن نصف طاقته لا يطرحها للاستخدام"، كما يقول إمرسون، والوصف ينطبق هنا على عامر.
إنه يبدو بكامل مدّخراته، ينطوي على ذخيرة فعّالة، فقط، لربما يحتاج الرجل إلى فسحة من الزمن الحر، مساحات خالية من الازدحام اليومي، وسوف يفيض نحو دروب وكشوفات شعرية جديدة.
فالشاعر الحق -بحسب درويش- دوماً، لن يكف عن البحث عن "سمائه الأخيرة".