مقالات
"عن القحطانية والعدنانية" في اليمن
إن الذاكرة الحضارية تستطيع أن تزوّد المجتمعات بالقدرة على مواجهة الواقع الصّعب، وفي بلادنا يتم استعادة الذاكرة لتهميش الدور الحضاري لليمنيين بطريقة مشوّهة، بسبب العُقم الفكري، والنّزعة القبلية وما قبل الوطنية، بحيث يتم تصوير الدّور الرائد الذي قدّمته اليمن للحضارة الإسلامية على أنه كان تلاعبا قرشيا، وبذلك تُظهر هذه الكتابات اليمنيين وكأنهم أغبياء، الأمر الذي يحرم اليمن من دورها الجبّار في تأسيس قواعد حضارة الإسلام، وعبقريتها الفذّة التي استطاعت أن تُترجم رسالة الدِّين في كسب الأمم والمجتمعات غير العربية للدخول في دِين الإسلام.
مع أوائل نشأة الحركة الوطنية في الثلاثينات داخل اليمن، سعى الأحرار -وهم في السجون- لبعث وإعادة تحقيق كُتب علامة اليمن "الهمداني"، للتعبير عن حضور الذات اليمنية في مواجهة الطغيان، و"الاستبداد الدِّيني" للإمامة، ولا شك أن العودة اليوم، والمراجعة باتت ظاهرة ملفتة في تناولات شباب "ثورة فبراير"، وهذا يعد مؤشرا من مؤشرات النهوض، ويقظة الروح اليمنية التواقة للانتصار لحلم استعادة وبناء الدولة اليمنية.
هذه الظاهرة، التي نراها اليوم ملفتة، هي محاولة للبحث عن الذات، وفي أوقات عديدة كانت تظهر مثل هذه الكتابات، والقصائد والأشعار، حينما كانت اليمن تتعرّض للتمزّق، والتفتت، بسبب الدعوات المذهبية، والمناطقية، إلا أن الفارق هو في نوعية الكتابة، إذ كان كُتاب الأمس مشبّعين بالتاريخ، وأكثر معرفة، واطلاعا من كتبة اللحظة الراهنة.
ووجه الانتقاد، الذي يوجّه لبعض الكُتاب والمنضويين في هذا التيار، هو في توجيهه للصراع والتناقض السياسي، وتحويله إلى صراع على أسس عرقية، وهذا ما لم تعرفه اليمن في تاريخها، ويعود السبب في ذلك إلى أن الغالبية العظمى منهم مدفوعون بردة الفعل. فلم يؤصل أبو محمد الحسن الهمداني للصراع مع الإمامة على أساس عرقي، إنما بناه على قاعدة سياسية، بحيث تحدّث عن قحطانيين "تنزروا"، و"نزاريين" تقحطنوا، أي اتخذوا الموقف السياسي لهذا الطرف أو ذاك، كما يرى الدكتور علي محمد زيد.
هناك محاولة تشكيك في بعض الشخصيات الجمهورية، التي انخرطت في ثورة سبتمبر من لحظاتها الأولى، وكان لها دور فاعل في الإعداد للثورة وفي نجاحها، وخصوصا من الهاشميين، وهي تأتي بصورة عبثية، وتعميم مختل، يحاول وسم كل منتسب لهذه الفئة بأنه "دخيل" على العمل الوطني، وهذا التشكيك مع تهافته، لا يُسهم في تعزيز حُجة دُعاته، لأنه لا يستند إلى دليل، إنما يعمل على تعزيز فقدان المجتمع لثقته بنفسه، وبقدرته على خلق اجماع وطني على القضايا المصيرية، خصوصا واليمن في اللحظة الراهنة بحاجة جميع أبنائها للحفاظ على كيانها وبقائها.
فأحمد عبدالوهاب الوريث (هاشمي) انطلق في مواجهة الإمامة من قاعدة وطنية، تستند على إحياء موروث "نشوان الحِميري"، بل إنه عمل على إحياء النّزعة القحطانية لمواجهة الإمام يحيى، وذلك حتى لا يستخدم الإمام الدِّين لتكفيرهم، أو يعمل على تشويه دعوتهم الإصلاحية بأنها "من صنع الاستعمار"، فكانت مجلة "الحكمة" التي رأس تحريرها، ومن بعده أحمد المُطاع، وقد أسهمت في إحياء التاريخ الحضاري لليمن القديم -كما يرى عبدالله البردوني- وفيها نُشرت قصيدة "نشوان الحِميري" الذائعة الصِّيت، وكان لمواضيعها الأثر البارز في تحريك الروح الحضارية في أعماق الشخصية اليمنية، التي سعت الإمامة لتحطيمها.
خطاب القومية بين الوطنية والشعوبية
لا يمتُّ خطاب "القومية"، الذي يحاول النيل من العروبة، بنسب إلى القحطانية الساعية لاستعادة الذات اليمنية، لكنها -للأسف- تستقي أُطروحاتها من "الشعوبية الفارسية"، التي سعت لتحقير العرب، ووصمهم بكل منقصة ورذيلة.
فلم يكن دُعاة "القحطانية" اليمنية طوال العصور، التي كانت تتوهج فيها هذه الدعوة، يحقّرون العروبة والعربية، بل كانوا يمجّدون اليمن على أنها "أصل العرب"، بدليل أن "وطنية الهمداني"، وكذلك "الوطنية الحِميرية" لليمنيين العاديين لم تتصفا بالهجمات على سائر العرب، أو بمهاجمة الإسلام، وكانت فصائل اليمنيين جميعا تعتبر في نظرهم جزءا من فصائل العرب" [بيوتروفسكي اليمن قبل الإسلام والقرون الأولى للهجرة، تعريب محمد محمد الشعيبي ص 140]
[ولم تنطلق الوطنية اليمنية من موقف معادٍ للعربية والعرب "ولم تتعارض الوطنية المحلية مع العروبة مثلما كانت تتعارض معها "الشعوبية الفارسية"، وكانت الوطنية المحلية موجودة منذ بداية الأمر في الأطر العربية والإسلامية، كما كانت الوطنية الحِميرية تنطلق من الحِميريين وكافة اليمنيين عموماً بأنهم عرب (لكن الأفاضل في العرب) ومسلمون (ولكن الأفاضل من المسلمين)] المصدر السابق.
"اليمننة" هي الحل
منذ 1800سنة، لم تتمكن المذاهب، ولا الملل التي دخلت البلاد، وحتى اليوم مع دخول الأحزاب اليسارية، والجماعات الدّينية، والحركات القومية إلى الساحة الوطنية، وتبنّي قطاعات عديدة من الشعب ﻷفكارها، أن تملأ نفسية الإنسان اليمني، ولا التعبير عن تطلعاته وآماله، ومن هنا فإن بناء دولة يمنية هو المشروع القادر على ملء نفسية الإنسان اليمني.
وما يجب التركيز والتأكيد عليه هو أن تفكيك المشاريع ما قبل الوطنية، من: سلالية، ومذهبية، وطائفية، ومناطقية، لن يتأتّى إلا بصياغة مشروع وطني جامع، يقوم على المشتركات الوطنية التي تعزز من شعورنا جميعا بأننا يمنيون.