مقالات
عن المصالحة المرتجلة وغبن الضحايا..!
قبل أن نصرخ: هيا نتصالح، علينا أن نستعيد السؤال الكبير: لماذا تخاصمنا؟ قبل أن تُطالب الناس بالتسامح، عليك أن تسأل لماذا هم غاضبون؟ ولماذا لا يزالون محتقنين؟ وما العمل كي نخفف من سخطهم ونمهد الأجواء لتحقق شروط المصالحة؟
إن أي دعوات إلى المصالحة لا تمر بهذه الأسئلة هي مصالحة مرتجلة، بلا أفق ممكن ولا جدوى متحققة، مصالحة يتم الترويج لها من أعلى، فيما طريق المصالحة تكون أكثر جدوى حين تمر بخطوط متوازية، يتطابق فيها الخطاب النّخبوي الداعي إلى المصالحة مع المزاج الشعبي المستقبل لها، وقد تم تهئيته لذلك.
نعود إلى الحدث المفجّر للحكاية، فقبل أيام، ضجّت الأجواء بحديث وحديث مضاد يدور بمجمله حول فكرة "المصالحة الوطنية"، صيغت دعوات موقّعة لعدد من أعضاء مجلس النواب، ونُظِّمت حملات لإسقاط العقوبات عن نجل الرئيس السابق (عفاش)، وعلى النقيض الآخر قابلها ردود فعل شعبية رافضة لهذا المنطق. إنها ليست المرّة الأولى لاحتدام السجال حول فكرة المصالحة؛ لكنه سجال يأخذ الطبيعة ذاتها كما كل مرّة، ويعكس ديمومة الجرح، وبالضرورة يثبت عبثية المحاولات القسرية للمصالحة.
حسنا، ما المشكلة..؟
ثمة شعب مغبون هو طرف أصيل في معادلة المصالحة، وثلة من مسؤوليين سابقيين هم الطرف الثاني في معادلة الخصام هذه، الخصام ليس وليد اللحظة، لكن مياه كثيرة جرت بين وديان الجلاد والضحية، حيث الجاني الأصلي فقد مركزيته، وصار مجردا من السلطة، فيما الضحية ما يزال هو ذاته في الحالتين.
وبين هذا وذاك برز طرف ثالث هو المتسيّد الآن. الحوثي، وقد صار جلادا، ورث الصفة من الجلاد الأول، وواصل مسيرته في ممارسة العبث بالشعب.. بل إن ناره لسعت الجلاد الأساسي، وعلى هذه الفكرة بالتحديد تقوم فكرة المنادين بالمصالحة، على اعتبار أن هناك واقعا جديدا وجلادا جديدا، وهو ما يحتم على ضحاياه التوحّد بما فيهم من كان متهما وجلادا فيما مضى من الزمن.
وهنا يبرز السؤال الأول: هل يكفي وجود خصم جديد استحوذ على كل شيء، كي يتمكن الناس من مسامحة الخصم السابق؟ ثم ما دور الخصم السابق في التمكين لهذا الجلاد الجديد؟ وإذا تجاوزنا دوره، سنسأل: ماذا فعل الخصم السابق ليتقرب من ضحاياه، ويتمكن من التوافق معهم، وبما يخفف غبنهم، ويمتص طاقة الغضب المتراكمة ضده منذ زمن..؟
صحيح أن المصالحة تقتضي أن يقبض الضحية على جرحه، ويتنازل عن جزء من مطالبه المثالية، بما يمهد الأجواء لتقارب ممكن مع خصمه، لكن المشكلة ليست في عصبية الضحية ورغبته بعدالة كاملة، ولكنها في مكابرة الجلاد ورفضه الانحناء لضحاياه.
قد يتفهم العقلاء رفض الضحايا للمصالحة، وخطابهم الغاضب ضد من يطالبونهم بالمغفرة؛ لكن لا أحد يمكنه تفهم عناد المتهم واستمراره في تحميل ضحاياه نتائج الكارثة التي صنعها هو، لا أحد يمكنه مطالبة الضحايا بخفض عصبيتهم فيما جلادهم ما يزال يراهم المتسبب في الكارثة، وكأنهم هم من فتحوا أبواب صنعاء للحوثي، وتحالفوا معه، ومهدوا له كل شيء، ليغدو على ما هو عليه الآن!!
لا يكفي أن والد أحمد علي تعرّض للقتل، كي نتجاوز عنه، ونصطف لنغسل جرائمة، بحُجة المصالحة الجمهورية.. كما لا يكفي القول إنه جمهوري ليغفر له الناس، بهذه الحالة سنعيد تكرار عبارة لأديب فرنسي وهو يصرخ: [ااه أيتها الجمهورية كم من جرائم ترتكب باسمك].
إن المصالحة بين أطراف الصف الجمهوري، لا تكون بالدفاع عن متورطين ما يزالون في دائرة الشبهة، فالتسامح مع الشخصيات المشبوهة لا يخدم المصالحة بقدر ما يشوهها، كما أن النوايا الطيبة لا تجدي نفعا ولا تؤسس لمصالحة مضمونة. فالعدالة، التي تقام على أساس الطيبة، هي عدالة مفخخة.
إذ، لا يمكن تأسيس عدالة انتقالية مضمونة، دون حد أدنى من انصاف الضحايا، ومعاقبة المجرمين، أو على الأقل تغير خطابهم والبدء بتأسيس نهج سياسي مقطوع الصلة بماضيهم، وأكثر نزاهة، وبما يمهد نفسية الضحايا، ويخفض من طاقة غضبهم، وصولا للحظة يكونون فيها ذا قابلية للحديث عن المصالحة، وقد تأكدوا أن انقلابا جذريا حدث في نهج خصمهم، وبات متقاربا معهم، وكل جهده يصب في صالح مستقبل البلاد، وما خرج من أجله الضحايا أول مرّة.
من زاوية أخرى، ثمة محاذير إضافية، هي أن إسقاط العقوبات عن الأطراف المتورّطة بتقويض السلام في اليمن لا يخدم عملية السلام، بقدر ما يشجّع أطرافا أخرى لمواصلة عبثها بمصير الشعب، والتعويل على المصالحة؛ لإسقاط جرائمها، ما جدوى المحاكم الدولية؟ وما الذي يتبق من العدالة، إذا كان المجرم يُعفى من العقوبة بهذه السهولة والخفة..؟
كما أن المطالبين بإسقاط العقوبات عن أحمد علي، يتناسون أنه مرتهن لدولة خليجية ما تزال حتى اللحظة تتآمر على مستقبل البلاد، وتضخ الأموال لعائلة عفاش؛ كي تواصل استخدامهم مستقبلا لصالح مشروعها. مطالبكم هذه تضركم أكثر مما تخدم مستقبلكم. وهذه نقطة مركزية أهم، فالدولة المستضيفة لأحمد علي هي دولة كانت وما تزال تصدِّر نفسها كرأس حربة لثورات الشعوب في المنطقة، وعلى رأسها ثورة فبراير، التي يمثل أنصارها أغلب ضحايا النظام السياسي الذي كان أحمد علي أحد عناصره.
أخيرا: دعوات إسقاط العقوبات عن أحمد علي، تعكس بؤس الأطراف المنادين بها، هل تعتقدون أن نشاطكم هذا سوف يبعث برسائل إيجابية لأحمد علي وغيره، تذكروا أن تدليل المجرم يضاعف من تورّطه أكثر، يجعله يشعر بأن تآمره أمر هيّن، وهو ما يفتح الباب أمامه مستقبلا ليذهب في لعبته التي أدمنها حتى النهاية.
لسنا حاقدين ولا ناقمين على أحد -وإن كان الحقد هنا مشروعا ومبررا- نحن فقط نطالب بصياغة أسس مستقبل مضمون وبشروط صحيّة، بعيدا عن القفز على الحقائق وتضليل الناس، بحُجة المصالحة، لا نريد مصالحة مغشوشة، ولا سلاما يؤسس لمستقبل ملغوم.