مقالات

عن الوجود المرتبك للإنسان المعاصر

08/07/2024, 20:23:27

لعلّ أول سِمة من سِمات الإنسان المعاصر هي شعوره بالهشاشة. مهما امتلك من عناصر البقاء، وعوامل القوة والأمان، يظل بداخله إحساس خفي بنقصان وجوده. هذا الشعور الدائم بأن الحياة متزعزعة أسفل قدميه، لا يعود لنقصان عناصر الحياة الواقعية دائمًا، بل هو -تقريبًا- حالة ملازمة للجميع، وفي مختلف ظروفهم. 

لا شكّ أن الشعور الدائم بعدم اكتمال الحياة هو دافع طبيعي ومهم لمواصلة العيش بفاعلية، غير أن الأمر لا يتعلق باستمرار الدوافع الحيوية المطلوبة لإثراء الحياة، بل بنقصانها، حيث الفزع وفقدان الثقة بوجودك الواقعي كما هو صفة تُسهم بإضعاف حياتك، أكثر من كونها عامل تحفيز أو عناصر تقوية لطبيعة عيشك.

هناك ريبة عميقة تطبع نفسية الإنسان الحديث، شك غامض نابع من تأثيرات لا شعورية تتسرب إلى باطن الإنسان، وتُسهم في إرباك وجوده. 

لقد تعرّض الإنسان لعملية هدم جذري لأساساته النفسية، أُربكت عناصره الداخلية لدرجة إحساسه بالشك في حقه بالوجود؛ عجزه عن الشعور الحي والراسخ بأن حياته، التي بين يديه، هي حياة حقيقية وكاملة في ذاتها وحاملة لمعناها في داخلها.

أنت حقيقي دونما حاجة إلى البحث عن معنى خارجك، أو التفتيش المُلح لتفسيرات تخبره عمّا تعنيه حياتك التي تعيشها كل يوم. 

فيما مضى من الزمن، كان الإنسان مركزًا كامل قواه على واقعه الذي يعيشه؛ حديقته الصغيرة وعالمه المحيط به.

لم يكن يشعر بالحاجة إلى معانٍ غريبة عنه، ولا يتعرض لمشاهد حياة أخرى ومتعددة. هذا التركيز كان عامل قوة أولي، بصرف النظر عن أنّه يحرمك من إثراء وعيك، وتجديد نمط حياتك عن طريق التعرّض لصور حيوات متنوّعة. 

شيئًا فشيئًا، بدأت اللعبة تتسع، وصارت حياة البشر مفتوحة لمشاهد تتدفق من كل مكان. بداية ظنّ الناس أنهم أمام كنوز تنفتح عليهم، وسوف تساعدهم على اتساع حياتهم ومضاعفة خصوبة العيش في عالمهم الخاص، لكن وعد الثراء هذا لم يكن مكسبًا مجانيًا دونما مخاطر.

وبقدر ما جاء به من احتمالات لمضاعفة طريقة عيشنا، لكنه بموازة ذلك، يحمل إمكانية لتجريدك من نواتك الصلبة، لخلخلة قوتك المركزية، وفتح نوافذك لتغدو مشرعة للرياح من كل الجهات. 

صار إنسان الزمن الحديث يجد نفسه منخرطًا في اهتمامات لا تنتمي إليه، مهمومًا بأفكار لا علاقة لها به، متلبِّسًا لمشاعر ليست صاعدة منه، يجادل ويخاصم حول قضية في أطراف الدنيا، ويُبذّر طاقاته في كل اتجاه، دون أن يجد وقتًا ليسأل نفسه: لمَ أنا أفكر في هذا الموضوع؟ ما الدافع الأصلي في داخلي الذي يجعل من قضية كهذه مهمة بالنسبة لي؟

بل يذهب بعيدًا، ليواصل اللعبة، حدّ أن يُزّيف وجوده كليًا، ويغدو نسخة خارجية، تورثه شعورا بالغربة والوهن، وتسهم في تعميق هشاشته، وربما إرباك وجوده النفسي بالكامل. 

كلمة أخيرة: 

أنت أيها الإنسان، رب هذه الأرض، عنوان الوجود كله، وملح الزمان وسلطان المكان، أنت جوهر كل شيء، خالق الكلمات والأفكار، ووحدك من يملك الحق الأول والأخير ليطلق الأحكام، ويُقرر ما هو باطل مما هو صواب.

الصواب صوابك أنت، والخطأ خطيئتك ضدّ نفسك.

"كل ما ينمِّي فيك القوة، ويؤكد إحساسك بوجودك، هو فضيلة". 

الخطيئة هي ما تورثك شعورًا بالضعف، وتُفقدك يقينك بوجودك كما هو في كلّ لحظة أنت فيها. 

ملأوك بكل ما هو غريب عنك، أغرقوك بأفكار وتصوّرات من كل الجهات، شوشوا عليك المعاني، وجردوك من ثقتك الأولى بنفسك، زعموا أنهم يحاولون إضاءة الطرقات أمامك، يضاعفون قدرتك على الوعي بوجودك؛ لكنهم تسببوا في طمس صوتك الحق، كلمتك النابعة من جوهرك الكامل، خلقوا لك متاهات بلا نهاية، تعاريف متشابكة، وأفهاما غريبة عنك، وتركوك فريسة للكوابيس، تُحدّق في كل الجهات، تحاول فهم ما أنت عليه، أين تقف، وأي الجهات يجب أن تتحرك، لكنك تعود أكثر ضياعًا وغربة، وقد فقدت كل أسلحتك، فقدت كنزك المقدَّس، لغتك النابتة فيك، صرختك الأولى في وجه الضلالات، وثقتك بأنك الحكَم النهائي في كل ما يخص مصيرك.

مقالات

أبو الروتي (29)

بعد مرور عام على انتقالي إلى فُرْن العيدروس، وبعد أن تكيًّفت مع المكان، وصار لي علاقات وصداقات، كان عليَّ -أنا المصاب بلعنة الأفرَان- أن انتقل إلى فُرْن آخر، لكن الفُرْن هذه المرَّة كان ملكنا.

مقالات

المجلس الرئاسي: سلطة بلا روح

ثمة لحظة في التاريخ، حين تبلغ السلطة ذروتها في التكرار الفارغ، وتغدو الدولة مجرد قشرة بلا لبّ، مجرد طيف بيروقراطي يمرّ كل صباح على نشرات الأخبار دون أن يمسّ الواقع.

مقالات

بلد قيد "التشليح"!!

على وقع الحملة العسكرية الأمريكية على الحوثيين في الشمال، هناك هجمات متبادلة بين طرفي التحالف في الجنوب.

مقالات

أزمة العرب وأدوات السلطة والتشريع.. قراءة في الجذور

لا تزال أدوات الحُكم والتشريع في البلاد العربية خاضعة لمنطق السيطرة السياسية، وليس المشاركة الشعبية، إذْ أن غالبية الأنظمة القائمة لم تصل إلى الحكم عبر آليات ديمقراطية حقيقية، ولا مزيّفة، ولا تمارس سلطتها من خلال مؤسسات ديمقراطية مكتملة، وحتى حين تتوفر بعض النوايا الإيجابية

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.