مقالات
عن كتاب الاقتصاد اليمني والحرب
"الاقتصاد اليمني والحرب" كتاب للباحث الاقتصادي الأستاذ أمين إسماعيل الشيباني. والأستاذ الشيباني من القيادات الاقتصادية والإدارية الرفيعة؛ فهو حاصل على بكالوريوس في الاقتصاد - جامعة بغداد 1972، ونال درجة الماجستير، دراسات مالية من جامعة سترانكلايد، عام 1977، وتقلَّد عدّة وظائف:
- رئيس مجلس إدارة المؤسسة اليمنية العامة لصناعة وتسويق الأسمنت.
- رئيس مصلحة أراضي وعقارات الدولة.
- رئيس مصلحة الجمارك.
- مدير عام التعداد العام للسكان والمساكن، كما رأس مصلحة الضرائب، ووكالة الإيرادات بوزارة المالية.
شعرت بسعادة غامرة عندما أهداني كتابه المهم عن الاقتصاد اليمني والحرب، وللأسف الشديد، فالاهتمام بالجانب الاقتصادي في الدراسات والكتابات قليل، وقليل هم الباحثون في هذا الجانب.
يقع الكتاب المتوسط القطع في 321 صفحة، ويشتمل على ستة فصول، ويحتوي كل فصل منها على عدة فروع، مع مقدمة، وخاتمة. وما أكتبه ليس أكثر من تحية للإصدار المهم.
يحدد العام 2020 كبدء للكتابة مع تصاعد الحرب العدوانية على اليمن. يدين الحرب المدمرة لإنجازات الثورة اليمنية في المجلات المختلفة: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، كما يدين الأصوات المنكرة لوجود أي إنجاز للثورة؛ مما يصب في خانة العدوان، ويبرر العدوان.
يربط التنمية الاقتصادية بالاستقرار الأمني والسياسي، مثنياً على جهود أجيال متعاقبة في ثورة سبتمبر 1962، والاستقلال 1967، وتشاركهم ومساهمتهم في تحقيق الإنجازات الاقتصادية، والتراكم الرأسمالي في الأصول والمعرفة قبل طوفان الحرب الذي دمّر كل ما أنجز الإنسان اليمني. مشيراً أن الكتاب مكرّس لتأكيد أن ما أنجز في إطار الممكن، فبناء طريق هنا، أو جسر هناك إنجاز، وتخرج طلبة الثانوية العامة بمعدلات عالية في المواد العلمية إنجاز، وقيام أطباء يمنيين في مستشفى يمني بعمليات كالقلب المفتوح إنجاز، ويعتبر الاستفادة من الكهرباء، ومشاريع المياه، ومعدل ارتفاع النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي عن معدل ارتفاع نمو السكان إنجاز.
ويشير إلى أن الغاية تحقيق مستوى معيشة المواطن اليمني، كما يخلص في المقدمة إلى القول: "فلو أخذنا معدل دخل الفرد السنوي كمؤشر على مستوى معيشة المواطنين عند قيام الثورة، وما وصل إليه قبل هذه الحرب مباشرة؛ لوجدنا أن مستوى المعيشة قد تحسن بما لا يمكن مقارنته".
وما أشار إليه الإداري الكفء، والاقتصادي المتمكن والخبير، من تدمير الحرب العدوانية ضداً على كل ما أنجزه الإنسان اليمني والثورة اليمنية: سبتمبر، وأكتوبر، صحيح، والمقارنة صائبة في مواجهة ما دمّرته الحرب، وهي صحيحة أيضاً بالمقارنة مع أوضاع ما قبل الثورة، ولكنها تكون موضع تساؤل إزاء إمكانات وقدرات الشعب اليمني، والعون والمساعدات الدولية، وإزاء تفشي العبث والفساد والاستبداد في جهاز الدولة الذي أهدر الكثير، أما نقد الباحث الاقتصادي لإنكار الدمار، الذي ألحقه العدوان بتدمير الإمكانات والقدرات التي حققها الإنسان والثورة اليمنية، فصائب ومهم.
في الفصل الأول، يشير إلى أن الإحصائيات والبيانات قبل الثورة اليمنية كانت شحيحة، ولا ترسم صورة متكاملة عن الأوضاع؛ ما يجعله يعمد إلى العديد من المؤلفات لمن شاهد وعايش الأحداث، وهي مشاهدات تعكس الحالة العامة.
ويتناول في الفرع الأول الأوضاع الاقتصادية في القسم الشمالي من اليمن قبل ثورة الـ26 من سبتمبر 1962؛ فيقرأ حالة الكفاح، حيث يكون الأهم هو بقاء الإنسان على قيد الحياة.
ويدرس الزراعة كمصدر رئيس لنشاط السكان، وارتباط الزراعة بالأمطار، وطرائق جباية الزكاة، وما ينجم عنها من انهيار الزراعة، وتفشي المجاعات.
ويتناول المؤلف بدقة مفردات: "البدل"، و"المخمن"، وهي مفردات إمامية كثيرة ومقيتة، تنزع لقمة الخبز الكفاف من أفواه الجياع، وقراءة الأستاذ دقيقة وموضوعية؛ فالمواطنون رعية الإمام، والعاملون موظفون عنده، ولا يوجد قانون أو لوائح.
يرصد الإيرادات والنقاط العامة، ويدرس الحالة العامة من خلال الوضع الاقتصادي بالغ الفقر والتخلف. وقيمة المبحث وأهميته أنه يدرس الحالة القائمة كما هي بعيداً عن الأدلجة والتسييس المتعسف، كما أنه أيضاً ينقّب عن المعلومة بجهد ودأب.
في الفرع الثاني، يتناول الأوضاع الاقتصادية في الشطر الجنوبي قبل ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963، ويشخِّص أوضاع الجنوب منذ بدء الاستعمار 1839 لعدن، ثم المحميات.
ويرى أن الاهتمام بدأ عقب الحرب الكونية الثانية، أما قبلها فقد تعامل الاستعمار مع عدن كمخزن للفحم ليس غير؛ فعدن ظلت بدون مياه نقية للشرب طيلة 85 عاماً، ويعود بالازدهار إلى منتصف خمسينات القرن الماضي بفضل نقل القاعدة البريطانية من شرق أفريقيا إلى عدن، وإنشاء المصافي، وقيام حكومة الاتحاد الفدرالي عام 1959، إضافة إلى عاملين يضيفهما بعض الكتاب: فصل مستعمرة عدن عن الإدارة الهندية، وانتعاش الحركة الملاحية والتجارية بعد فتح قناة السويس. أما الوضع في المحميات، فأسوأ بكثير، وتركّز النشاط الاقتصادي على الزراعة والرعي والصيد.
ويشير المؤلف إلى أنه لا توجد أرقام موثقة، ومعظم المنتجات الزراعية الواردة إلى عدن مصدرها الشمال، وكان محصول القطن هو ما يدر بعض العوائد بالعملة الصعبة، وهو المحصول الآتي من أبين ولحج، ويؤكد على الهوة القائمة بين المستعمرة عدن، والمحميات في مختلف مناحي الحياة.
ويشير إلى تحديد بعض مظاهر الرفاهية بمنتصف الخمسينات، التي انتهت بإغلاق قناة السويس، وبرحيل الاستعمار 1967، ويحدد مظاهر الرفاه خلال العشرة أعوام في الآتي:
- تحديد ميناء عدن كميناء أدى إلى ازدهار حركة الملاحة الميناء الثالث عالميًا.
- تم ردم منطقة خور مكسر، وإنشاء مدينة لاستخدام الضباط الإنجليز الآتين من شرق أفريقيا.
- التوسع في سفلتة الشوارع الداخلية لمدينة عدن، ومشاريع المعلا، وكان يعتبر حينها أجمل شارع في الجزيرة العربية.
- إنشاء مصافي عدن؛ لخدمة الملاحة البحرية والتجارية والقاعدة العسكرية؛ الأمر الذي ساهم في ازدهار عدن.
- مثل مطار عدن بعد الحرب العالمية الثانية إلى جانب المطار العسكري بحكم موقع عدن الإستراتيجي الربط بين الشرق والغرب كخدمة للترانزيت للبضائع، والمسافرين، مما شجّع الكثير من الشركات الأجنبية على استخدام المطار.
- في النصف الثاني من الخمسينات والنصف الأول من الستينات، كانت أسواق عدن مملوءة بالبضائع ذات الماركات العالمية المشهورة، وكانت مركزاً لإعادة التصدير للعديد من البلدان، وتعزيز حركة السياحة.
- تركز النشاط الاقتصادي في مدينة عدن، وغاب عن المحميات، وكان أشهرها صناعة تكرير النفط من خلال مصفاة عدن إلى جانب العديد من الصناعات الخفيفة: الملح، المشروبات الغازية، تجديد إطارات السيارات، دباغة الجلود، والبلاط، والبلوك، والأثاث المنزلي، ويملكها مستثمرون محليون، وقد تعرض معظمها للإغلاق لعدم وجود حماية.
- يعمل الاستعمار في البلدان المستعمرة على تشكيل اقتصاديات وأنشطة تتوافق ومصالحه وتخدم وجوده، كما يحارب رأس المال الوطني لصالح شركاته.
- انحصر نشاط أبناء المنطقة على الخدمات والوظائف التي يحتاجها المستعمر وشركاته، أما النشاط التجاري الرئيس، فمخصص للأجانب. وينقل عن علوي طاهر الشركات الأجنبية لتوزيع البترول، ومعظمها شركات بريطانية، وهي: شركة شل، وشركة بي بي، وكالتكس، وموبايل أويل، وهناك شركات فرنسية لأعمال التجارة الداخلية مثل ابس، وبريطانية بول رايس، وغيرهما، وهي تتعامل مع الشركات الغربية، وقليلاً مع العربية، وقد وجدت في عدن شركات الخدمات الأساسية: البرق واللاسلكي، والبريد، والهاتف، واقتصرت في البداية على القاعدة العسكرية، ولم تقدم للخدمات العامة إلا بعد الحرب العالمية الثانية.
وارتبط الرفاه والنشاط الاقتصادي، خلال العشر السنوات، بعد نقل بريطانيا قواتها من شرق أفريقيا.
ويشير إلى انتعاش الأنشطة الاجتماعية والثقافية، وازدهار الصحافة؛ فقد تجاوز إصدار الصحف والمجلات 85 مطبوعة، وبلغت المنتديات، والأحزاب، والتنظيمات السياسية العشرات، وكان التلفزيون من أوائل التلفزيونات العربية التي بدأت البث.
يؤكد في الخاتمة أن بريطانيا لم تهتم بعدن في العشرات الأخيرة، ولم يكن الاهتمام إلا نتيجة متطلبات القاعدة العسكرية بعد نقلها إلى عدن.
ويورد شهادة للمستر تريقليان -آخر المفوضين الساميين في عدن- نقلاً عن الكاتب شارل سان قوله: "ولدت أخيراً جمهورية صغيرة جديدة فقيرة إلى درجة محزنة، وهي معرضة للمرور بمراحل من العنف والتمرد، فلم نترك طوال فترة حكمنا لها شيئاً إيجابياً يمكن أن يدوم".
ويضيف المؤلف نقلاً عن الكاتب شارل سان في كتابه "العربية السعيدة"، وبالصفحة نفسها (89): "عند مغادرة البريطانيين كان القسم الجنوبي من اليمن في حالة تخلف مزري. أقل من 200 مدرسة ابتدائية، 590 كم من الطرق المعبدة، و90 % من السكان الأميين".
الفاجع أن هذا العدد المذكور من المدارس القليلة، مع توفر كهرباء في الشوارع الرئيسية، ونشاط الصحافة، والأحزاب السياسية، والنقابات في المستعمرة عدن كان محل اندهاش الآتين من الشمال، والفارين من نير وطغيان الإمامة، وانغلاقها، وكان العمال والفلاحون يهربون إلى عدن، ومنها إلى المهاجر المختلفة؛ لإعاشة أسرهم، وتعليم أبنائهم، وكانت المظالم خرافية، والأمية تتجاوز النسبة التي يفوز بها الحكام العرب في الانتخابات، وكان الأحرار يهربون إلى عدن لتأسيس حزب المعارضة (حزب الأحرار)، ويجد فيها العمال وأصحاب الدكاكين وسيلة للعيش.
الكتاب "الاقتصاد اليمني والحرب" من أهم الإصدارات العلمية عن أوضاع الشمال والجنوب لعدة عقود، وهو مبحث علمي دقيق وموثق، يعتبر مرجعاً لدراسة الوضع اليمني وآثار الحرب المدمّرة.