مقالات
عن مؤتمر العلماء اليمنيين.. ولادة جديدة للعقل اليمني
تابعت مجريات #مؤتمر_الباحثين_والخبراء_اليمنيين على قناة بلقيس ومنصات التواصل الاجتماعي وكأنني أشاهد ولادة جديدة للعقل اليمني بعد طول غياب.
لم تكن مجرد جلسات علمية، بل عرضاً نادراً لليمن الحقيقي الذي يُراد له أن يغيب خلف الركام.. يمن العلماء والباحثين والمفكرين الذين يضيئون العتمة بمعرفتهم.
أبهرني هذا الزخم من العقول الناضجة وهي تعيد تعريف معنى “الانتماء” لا كولاء سياسي أو جغرافي... بل كمسؤولية فكرية تجاه وطن أُنهك ولم يبقَ له إلا عقله.
لقد كان المشهد مهيباً.. وجوه مشرقة بالعلم... أصوات تزن كلماتها بميزان البحث لا الشعارات.. أفكار تنحت طريقاً ثالثاً بين الحرب والاستسلام — طريق العقل..طريق الدولة المدنية الحديثة ... بدا هؤلاء العلماء كأنهم النواة الأصيلة لوطن قادم من بين الرماد.
كان المؤتمر أشبه بإعلان صامت، يصرخ منظموه وعلماؤه: أن اليمن لا يزال موجوداً لكن بصيغة أرقى — بصيغة الفكر والمعرفة.
ما شهدناه في مؤتمر الباحثين والخبراء اليمنيين لم يكن مجرد لحظة فارقة في الوعي الوطني ومنعطفاً نوعياً في مسار التفكير اليمني الجمعي.. لقد كان إعلاناً صريحاً بأن اليمن ما زال يملك عقلاً حراً، وضميراً فكرياً يقاوم التآكل والسطحية وسط هذا الركام من العبث.
بنظري وعن يقين أقول: لقد جسد المؤتمر- ولأول مرة منذ عقود- فكرة أن اليمن لا تنضب عقولها، وأنه رغم الانكسارات السياسية والحروب والتشرذم والدويلات المتناثرة هنا وهناك لا تزال هناك طاقة فكرية وبحثية قادرة على صناعة الأمل وتخطيط مستقبل مختلف أكثر وعياً وعدلاً وفاعلية.
شكراً لكم لأنكم جمعتم هذا الطيف النادر من العلماء والخبراء والمبدعين من كل التخصصات، تحت مظلة واحدة ونحو هدف واحد ورفعتم راية العلم فوق ضجيج السياسة، وذكّرتم الجميع أن طريق النهضة يبدأ من المعرفة والتنظيم لا من الشعارات والعواطف والفرز والتحشيد.
إن ما بدأتموه هو نواة لمشروع وطني حقيقي، يعيد للعقل اليمني مكانته، ويؤسس لجيل من المفكرين والخبراء الذين سيقودون التحول القادم.
إن جمع هذا الطيف الواسع من العلماء والخبراء والمبدعين اليمنيين من مختلف التخصصات، تحت مظلة واحدة، هو خطوة تأسيسية لإعادة الاعتبار إلى العقل اليمني المنهجي كأداة لبناء الدولة، لا كزينة خطابية في زمن الفوضى.
وإذ ندرك أن أي فعل حقيقي سيواجه لا محالة بالنقد كعادتنا الأصيلة "لا نعمل ولا ندع الآخرين يعملون"، إلا أن ما وجه للمؤتمر من انتقادات غير مهنية لم يكن اختلافاً فكرياً مشروعاً ونقداً بناءً؛ بل كان تكراراً مؤسفاً لذات نمط المماحكات والمهاترات التي عطلت مشاريع النهضة في اليمن لعقود... إنها عقلية لا تحتمل أن ترى عملاً منظماً أو فكرة ناضجة لأنها لا تعيش إلا في بيئة الفوضى والضجيج...وهذا تحديداً ما يجعل هذا المؤتمر أكثر أهمية لأنه اختراقٌ مباشر للرداءة.. كما هو تذكير بأن طريق التغيير يبدأ من المنهج والمعرفة لا من الهتاف والضغائن.
أما الظاهرة الأعمق التي يلمسها كل منصف.. فهي هجرة العقول اليمنية.. تلك الخسارة التاريخية التي تمثل أحد أخطر نتائج العبث السياسي وتآكل الدولة خلال العقد الأخير. لقد خرج من اليمن خيرة علمائه وباحثيه، لا بحثاً عن رفاه مادي، بل هرباً من بيئة طاردة للعقل لا تحتمل الكفاءة، ولا تقدّر الإنجاز... وما فعله المؤتمر هو أنه أعاد توصيل الأسلاك المقطوعة بين الوطن وعقوله المهاجرة، ليقول إن هذه الطاقات لم تذهب هدراً، وإن استعادتها تبدأ من منصة فكرية كهذه، لا من قرارٍ سياسي أو شعارٍ عاطفي.
إننا نرى في هذه المبادرة بذرة مشروع وطني مدني جديد، يعيد تنظيم طاقة المعرفة لخدمة الإنسان اليمني.. نأمل أن تتسع هذه التجربة لتصبح منصة دائمة للبحث وصناعة القرار، وأن تتحول إلى تقليد سنوي يستقطب مزيداً من العقول اليمنية في الداخل والخارج تنتج الرؤى والسياسات والأفكار التي يحتاجها اليمن لبناء دولته المدنية العادلة، لتتحول المعرفة إلى قوة استراتيجية تعيد رسم مستقبل اليمن.
لكم خالص التقدير والامتنان، ودعاؤنا أن تتوالى النسخ القادمة — الثانية، والثالثة، والعاشرة — من هذا المنجز، حتى يصبح مؤتمر الباحثين والخبراء اليمنيين عنواناً لمرحلة جديدة من الوعي الوطني والنهضة العقلانية.