مقالات

عيد الأغنية اليمنية.. كيف نصغي للفن؟

05/07/2023, 06:06:15

عند كلّ حدث، أتساءل عن فلسفة الموضوع أكثر من الحديث عن تفاصيله الظاهرية، في يوم الأغنية اليمنية (1 يوليو) وهو عيد ابتكره اليمنيون؛ كي يوسعوا من شغفهم بميراثهم الفني ويُعمِّقوا من أهمية الفن في حياة أي شعب، لكن سؤال مركزي يبرز هنا: ما المستوى الذي يمكن لليمني أن يوليه للفن.. ما حجم الأثر الممكن للفن في حياة اليمني؟ يبدو السؤال ذا طبيعة فلسفية، نعم. لكن شخصا من الجهة المقابلة سيقول: وهل اليمني إنسان مختلف حتى نتساءل عن أثر الفن والأغنية فيه؟

إنه، ببداهة تامة، مثل أي إنسان في الكوكب، حيث يتأثر البشر بالفن بشكل متفاوت من فرد لآخر. هذا صحيح، غير أن اليمنيين، باعتبار حياتهم القاحلة، لا بُد أن أثر الفنون فيهم هامشي بشكل كبير. 

لربَّما تحتاج الشعوب المتعبة إلى الفنون أكثر من بقية الشعوب ذات الظروف المرتَّبة، غير أن المسحوقين لا ينتجون ما يحتاجونه من فنون؛ لمداوة جروح حياتهم. بل لا يملكون مساحة نفسية كافية؛ ليتذوَّقوا ما لديهم من ميراث.

يحتاج الفن إلى حياة بشرية مرتَّبة؛ كي يتوسَّع انتشاره، ويتجذر انشغال الناس به. فلا يمكن لإنسان مكتظ بكل شواغل الحياة اليومية أن يتشرّب الفن بشكل جذري. سوف يصغي مشرَّد للأغنية، هذا أمر روتيني؛ لكنه سيسمعها وخياله مكتظ بكل شواغل الدنيا، لا بُد أن ينطرب، لكن أثر الطرب فيه لا يتعدَّى ملامسته للسطوح دون أهلية نفسية كافية؛ كي تؤدي الأغنية دورها في تربية الطِّباع البشرية والصعود بها. 

لديَّ قناعة أن ما ينقص اليمني، عفوا، بل ما ينقص البشر كل البشر، ليس أغاني جديدة رائعة، ولا قصائد خالدة، ولا كتابات رفيعة، ولا فلسفات حديثة. ينقصهم شيء واحد فقط، شرط أساسي ووحيد؛ كي يحصدوا أكبر عائد معنوي في حياتهم، هو أن يتدرَّبوا على تطوير طريقتهم في التلقيّ، التلقيّ، التلقيّ. كيف يتوقفون مع المعنى بذهنية حيّة، وبروح ذاهلة، كيف يطوِّرون ملكة استقبال الكلمة واللحن والموسيقى؛ كي يحصدوا ثمرتها. يحتاج كل البشر إلى تطوير ذائقتهم، ويحتاج اليمني إلى الأمر نفسه بتكثيف أكبر. 

غالبية البشر يعانون من بلادة قاتلة في طريقة تعاملهم مع مصادر المعنى، مزاج واهن، وأذهان مرتخية للغاية، يمر بنا المعنى وكأننا في حالة من الغيبوبة، تعبر الكلمة على أذهاننا كأنها مجرد ريح باهتة أو قشة طافية، لا تستدعي أي نباهة منَّا؛ كي نحتضنها ونحفر لها مكاناً ومأوًى أبدِيا بداخلنا. ما جدوى أن نراكم إنتاجات جديدة، ما دامت أجهزة الاستقبال لدينا معطوبة وضعيفة الأثر؟ لكن ماذا عن اليمني؟ إنه أكثر البشر انطراباً بالفطرة، غير أن ظروفه لا تمنحه بيئة معيشية ملائمة؛ لتجذير أثر الفنون فيه بشكل كافٍ. 

كل الناس يستمعون للأغاني، كلهم يقولون إنهم طروبون، هذا أمر رائع؛ لكنك لا تكاد ترى أثراً جوهرياً للفنون في طبائع البشر، لا أدري كيف يستمعون للأغاني، ولماذا لا تبدو أنها أسهمت في إصلاحهم، لم تنضبط انفعالاتهم في الحياة، ولا تلاحظ فرقاً بين إنسان رأيته يسمع أغنية قبل عشر سنوات، ورأيته البارحة يحتفي بيوم الأغنية اليمنية؛ لكنه ما يزال هو هو. لا يوجد فارق كبير وملحوظ بين طبيعته النفسية، ملامحه وسلوكه. 

يحتاج اليمني إلى أن يقاتل أشباح حياته المقلقة، ويحتاج إلى أن يجتهد؛ كي ينتزع لنفسه كل يوم مساحة فارغة من الكربات؛ ليصغي للأغاني. لعلّ هذا تدبير شخصي فعّال؛ ليرفع كل إنسان من مستوى إحساسه بالفن. لربما تسهم الأغنية/ الفن عموماً، في مساعدة المسحوقين على ترتيب أذهانهم المشوشة، وتمنح أوجاعهم معنى يلطِّفها. 

أعلم أنني أتحدَّث عن موضوع ذي طبيعة فلسفية ونفسية، ولا يخص اليمني فحسب، لكنه أمر جدير بالتوقف معه. وهو أمر لا يتعلق بالأغنية، بل بكل ما يستقبله الإنسان. وعليه، ففي عيد الأغنية، لا أميل إلى الشكوى من واقع الأغنية اليمنية، ولو كان للنقاد رأي آخر في هذا. فلو لم يكن لنا من تراثنا الفني سوى 20 أغنية عالية الرُّتبة لكانت كافية؛ كي تسهم في انقلاب جذري في نفوس البشر، وتبث فيهم قوة وصحة ذهنية ونفسية، وتعدِّل طباعهم بشكل مهول. 

الخلاصة: علينا أن نجتهد لتنظيف أجهزة الاستقبال لدينا، بالتوازي مع مطالبنا المتصاعدة بمزيد من المواد المرسلة، لا جدوى من أي بث جديد، ما لم نتأكد من استعدادنا الرفيع للاصغاء إليه بحس متجدد. ومتى تمتع البشر بمنافذ سمعية وبصرية نقية وجسورة، سوف تتحول أبسط أغنية لدستور خالد، يعيد صياغة شخصياتهم بشكل مذهل، عندها ستلحظ فارق التحوُّل في طباعهم وشخصياتهم، ليس بين عام وآخر، بل بين ليلة وأخرى.

مقالات

"بلقيس" لا تطفئ الشموع

ربّما زهرة العمر قضيتها في قناة "بلقيس"، كنتُ قادماً من عملٍ في وسيلة إعلام رسمية ممتلئة بالمحاذير إلى وسيلة شعارها "صوت كل اليمنيين"، كان ذلك بمثابة انتقال بين عالَمين.

مقالات

هذه البصمة وهذا الإنجاز

بعد غياب دام أكثر من عشر سنين، عن مدينة الطفولة والتعليم الأساسي؛ مدينة تعز، وأثناء طوافي القصير خلال إجازة العيد في أحياء مدينة تعز، شد انتباهي واستوقفني هذا الصرح العلمي، الذي ينتصب في "مديرية المظفر"؛ الذي اُستكمل إنشاؤه وتجهيزه مؤخرا؛ وهو عبارة عن "مدرسة أساسية وثانوية للصم والبكم

مقالات

عن الكتابة

تاريخ الكتابة هو محاولات مستمرة لتجاوز الهوة الفاصلة بين الإحساس الحقيقي والنص المكتوب. كل المشاعر الحقيقية هي في الواقع غير قابلة للترجمة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.