مقالات
غياهب الصراع في غياب الفكرة
النصر لا يتحقق كحالةٍ منعزلة، بل ينبثق من شبكةٍ معقدة من العوامل، حيث تترابط الفكرة بالقوة، ويولد الفعل من رحم الضرورة التاريخية.
في واقعٍ يسوده التشظي، تتراجع هذه الجدلية لصالح حركاتٍ متآكلة، تستهلك ذاتها في صراعاتٍ تفتقد الاتساق الداخلي، فتُنتج نفسها بشكلٍ دائري، دون قدرةٍ على تجاوز شروطها الأصلية.
حين يفقد الكيان وحدته، لا يعود الصراع أداةً لخلق المعنى، بل يتحوّل إلى غايةٍ قائمة بذاتها، تتكرر بصورٍ مختلفة دون أن تفضي إلى أي تحوّل جذري.
القوة التي لا تستند إلى فكرة، تفقد بوصلة الحركة، وتتحوّل إلى طاقةٍ مبعثرة، تُستنزف في مناوشاتٍ آنية، لا تمتد إلى أفقٍ تاريخي، ولا تترك أثرًا في بنية الواقع.
أي كيانٍ يواجه أزمة داخلية يمر بمسارين متوازيين: الأول، تفكك المرجعية التي تمنحه نسقه الداخلي، مما يؤدي إلى فقدان التماسك الذاتي؛ والثاني، انغماس عناصره في صراعاتٍ متتالية تُعيد إنتاج الفوضى التي انطلقت منها.
حين يتناحر الداخل مع ذاته، تُستهلك الطاقة في نزاعاتٍ داخلية، حيث تصبح القوة أداةً للحفاظ على التوازنات الهشة، بدلاً من أن تكون وسيلةً لاختراق الجمود التاريخي.
في هذا السياق، تتكثف التناقضات، فلا يعود الصراع تعبيرًا عن تنافسٍ مشروعٍ بين تصوراتٍ مختلفة، بل يتحوّل إلى دوامةٍ من التحلّل الذاتي، حيث تتلاشى الخطوط الفاصلة بين الفعل ورد الفعل، ويتحول الجميع إلى أطرافٍ في لعبةٍ مغلقة، تعيد نفسها باستمرار.
عندما تفقد الفكرة مركزيتها، تفقد القوة وظيفتها التاريخية، فتتحوّل إلى طاقةٍ منفلتة، تستجيب للظروف دون أن تخلق نسقًا يوجّهها. الفكرة ليست مجرد بناءٍ معرفي، بل سيرورة تُعيد تشكيل الوجود وفق منطقها الخاص.
من يكرّس وجوده لفكرة، حتى وإن بدت متخيّلة، يتحرّك داخل نسيجٍ من الحتميات التي تمنح الفعل قوّة الاستمرارية. أما الذين يفقدون هذا البُعد، فيتحوّلون إلى كائناتٍ سائبة، تُعاد صياغتها وفق متغيِّرات اللحظة، فتفقد تماسكها مع الزمن، وتتبدّد داخل سياقٍ لا يحمل امتدادًا واضحًا.
الفكرة، حين تفقد حضورها، لا تترك فراغًا محايدًا، بل تفسح المجال لظهور حركاتٍ تُعيد تدوير الشعارات، دون أن تخلق بنيةً جديدة قادرة على إحداث تحوّلٍ حقيقي.
القضايا الكبرى لا تُهزم أمام خصومها، بقدر ما تنهار تحت وطأة تحوّلها إلى مساحاتٍ للتمثيل، حيث تُوظّف الشعارات لإنتاج الولاءات، ويتحوّل الفعل إلى مجرد محاكاةٍ للنضال، دون أن يكون مرتبطًا بغاياته الأصلية.
حين تتراجع الفكرة، تُصبح الأولوية للحفاظ على الأشكال الرمزية، مما يخلق حالةً من الجمود، حيث تتكرّر العبارات ذاتها، دون أن تُترجم إلى حراكٍ فعليّ.
الأفراد، الذين يُفترض بهم أن يكونوا أدواتٍ للتغيير، ينغمسون في إعادة إنتاج الصور النمطية، فتتحوّل المعارك الكبرى إلى منافساتٍ بين رموزٍ تتصارع على الهيمنة، بينما تتلاشى الأسس التي قامت عليها القضية الأصلية.
في هذا السياق، لا يعود الانتصار ممكنًا؛ لأن الفعل النضالي ينفصل عن منطقه الداخلي، ويصبح محكومًا بضروراتٍ آنية تفرضها توازنات اللحظة.
التحوّلات التاريخية لا تنشأ من الفراغ، بل تتشكّل داخل أنساقٍ تُعيد ترتيب العناصر وفق منطقٍ جديد.
النضالات، التي تفقد رؤيتها، تتحوّل إلى طاقةٍ عالقة، تتفاعل مع المستجدات دون أن تنتج ديناميكياتٍ تُحدث قطيعةً مع الماضي.
في هذه الحالة، يصبح التاريخ مساحةً للتكرار، حيث يعاد إنتاج الأزمات نفسها بأشكالٍ متغيّرة، دون القدرة على خلق مسارٍ جديد. الفوضى، حين تستمر لفترةٍ طويلة، لا تبقى حالةً استثنائية، بل تتحوّل إلى نظامٍ ضمني، حيث يُعاد توزيع القوة داخل شبكاتٍ من المصالح المتشابكة، فتفقد الصراعات بُعدها الجذري، وتتحوّل إلى تفاعلاتٍ داخل إطارٍ ثابت، لا يفتح أفقًا لأي تحوّلٍ حقيقي.
الفعل، الذي لا يحمل امتدادًا تاريخيًا، لا يتجاوز لحظته، فيظل محكومًا بشروطها، دون أن يكون قادرًا على خلق حركةٍ تتجاوزها.
القوة، التي تنطلق من فكرةٍ واضحة، لا تُستهلك في اللحظة الراهنة، بل تمتلك أفقًا يسمح لها بتجاوز العقبات المرحلية.
الذين لا ينخرطون في هذا الامتداد يظلون عالقين في حركاتٍ متكرّرة، حيث يُعاد إنتاج الأوهام ذاتها، دون أن تترسّخ أي بنيةٍ تُحدث تحولًا جوهريًا. الزمن يلتهم أولئك الذين يتحرّكون بلا بوصلة، فلا يتركون أثرًا في مسار الأحداث، ويتحوّلون إلى ظلالٍ عابرة، تتلاشى مع أول تغييرٍ يطرأ على المشهد.
استعادة المسار لا تأتي من محاولاتٍ لإصلاح البنية القائمة، بقدر ما تتطلب خلق منطقٍ جديد، يدمج الفكرة بالقوة ضمن نسقٍ يعيد تعريف الحركة التاريخية.
لا يمكن تجاوز الفراغ بإعادة إنتاج الأشكال القديمة، بل عبر اختراق الفوضى بسياقٍ يحمل رؤيةً متماسكة، قادرة على تحويل التكرار إلى قطيعة، وتحويل اللحظة العابرة إلى نقطة انطلاقٍ لمسارٍ يمتد عبر الزمن.
الفعل الذي ينجح في تجاوز حدوده اللحظية، لا يكون محكومًا بضرورات اللحظة، بل يمتلك ديناميكيةً تفتح أفقًا جديدًا، يُخرج التاريخ من دوائره المغلقة، ويمنح الصراع معناه العميق، كحركةٍ تتجاوز حدود الأفراد، وتمتد داخل نسيج الزمن.
في هذا الواقع الممزّق، تتبدد الفكرة في متاهات المصالح، ويتحوّل الخطاب الوطني إلى طقوس شكلية تُمارَس ببرود، دون أن تمتلك القوة الكامنة لإحداث أثر حقيقي.
الذين يرفعون لواء القضية الوطنية لا يعيدون إنتاجها كمعنى، بل يوظفونها كواجهة تُخفي صراعًا آخر، أكثر عمقًا، وأكثر ابتذالًا، صراعًا على المواقع، على الامتيازات، على إعادة تدوير السلطة داخل دوائر مغلقة.
الشعارات لا تُنتَج بوصفها تعبيرًا عن التزام، بل بوصفها جزءًا من صناعة الرموز، فتلميع الأشخاص يصبح أكثر أهمية من بلورة مشروع يُعيد تعريف الواقع.
زعامات تُصنع لا بوصفها إفرازًا للصراع، بل كنتيجة لآليات تكرّس الثبات في لحظة يفترض أنها لحظة تحوّل.
النضال يتحول إلى عملية ترويج للوجوه، فيفقد معناه، فلا يعود صراعًا من أجل المستقبل، بل سباقًا على من يحتل مركز الصورة.
الحكومة ليست غائبة فقط، بل فاقدة للقدرة على الحضور بأي شكل مؤثر، لا تستند إلى مشروع واضح، ولا تسير وفق رؤية تمتلك منطقها الداخلي.
كيان يطفو، يُدار بمنطق التأجيل، لا بمنطق الفعل، فيغدو البقاء هو الإنجاز الوحيد، بينما تُدار الدولة كحالة مؤقتة، لا كيانًا متجذرًا في الواقع.
السلطة تفقد بُعدها الأخلاقي، فتتحول إلى شبكة مصالح تُدير ذاتها بالأدوات ذاتها التي أفرغتها من مضمونها. في الرياض، يُفترض أن تتشكل القرارات، لكن الزمن يُهدر في طقوس لا تمت للواقع بِصِلة، فتغدو السياسة شكلًا من أشكال إدارة الفراغ، لا وسيلة لإحداث قطيعة مع مأزق اللحظة.
الحكم لا يُمارَس كأداة لتجاوز الأزمة، بل كحالة من التكيف مع انسدادها، فيُبرَّر العجز بدل مواجهته، ويُستهلك الزمن كوسيلة لإدامة الركود بدل أن يكون مساحة لصناعة الممكن.