مقالات
فرحة العيد التي ارتحلت عن اليمنيين!!
كان اليمنيون إلى ما قبل سنوات عديدة أكثر شعوب الأرض فرحاً بالأعياد الدينية، وخاصة عيد الأضحى، أو كما يسمونه الريفيون والفلاحون اليمنيون أصحاب القلوب البيضاء، كان الجميع يترقب هذا العيد طوال السنة ليعودوا إلى مسقط الرأس، أياً كان هذا المكان أو البلاد أو القرية أو الجبل، مهما ابتعدت المسافات، وارتحلت الطائرات والسيارات الحديثة والقديمة.
لاجدال في وفاء اليمنيين لمسقط روؤسهم، وقراهم، وأهليهم، وناسهم، يهزهم الشوق والحنين مهما باعدت بينهم الأسفار، مع ملاحظة أن اليمنيين أقلَّ الناس تعبيراً عن مشاعرهم نحو بلادهم؛ لأن مشاعرهم هي مشاعر عمياء مغلَّفة بالتعب والوجع، فلا تترك لهم مجالاً للتغني والتعبير، ولذلك نجد أقل أغنياتهم عن الأعياد والفرح بالعيد، ولولا أغنية علي الآنسي، التي تملأ كيان اليمنيين عموماً، لما كان لنا أغنيات عن العيد سوى أغنيات فيروز وأم كلثوم وغيرهما، وهي رغم نبوغها لكنها لا تعبّر عنا كيمنيين في أخص خصائصنا النفسية بكل أسف.
يوماً ما، وأنا أتحدث مع أيوب في جلسة حميمية خاصة عن السبب في أنه لم يطلب من الشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان قصيدة أو اثنتين للعيد، فقال مبتسماً: "والله ما خطر في بالي"، مضيفاً: "رغم أني كنت أطلب منه قصائد لمناسبات معينة فيلبي الطلب، ويبدع فيها، كما هي عادته في كل قصائده، فهو الشاعر الوحيد الذي تبدأ قصائده بكل قوة وشغف، وتنتهي على نفس القوة والشجن".
وتابع: "حين طلبت منه قصيدة قبل سفري للمشاركة في فعالية في بلغاريا، بداية تعاوننا الفني، كتب لي قصيدة: جنحتُ واجناحي حديد لا ريش، فأبدع هو في كتابتها، وأنا أبدعت في تلوينها اللحني، إلى درجة أنها قد تكون تعبيراً عن حنين اليمنيين الخاص إلى بلادهم من كل أرض وفج عميق، وفي كل مناسبة".
وفي سياق آخر، والشيء بالشيء يُذكر، نشير إلى ما صار بين المتنبي وسيف الدولة من وشايات الحاسدين للمتنبي، ووقوع الجفاء بينهما، وبداية ترحُّل المتنبي، واستعداده للسفر، وبيته الشعري الخالد، الذي قد لا يلتفت إليه إلاّ القارئ اللبيب من الوهلة الأولى، وهو قوله من قصيدة "يا أعدل الناس إلا في معاملتي":
"إذا تــرحّـــلت عن قـــــومٍ وقـــد قــــدروا ألاَّ تفـــــارقـهـُـــم فالراحلــــونَ هُمُ".
وكما هو الحال اليوم، وفرحة العيد ترتحل، وترحَّلت عن اليمنيين وهم لا يرتحلون عنها في كل الظروف العصيبة العمياء، التي تمر بها اليمن منذ سنوات، فكلهم وفاء للأرض، فليحمدوا الله أنه لم يعطهم سواها..
حتى إن الفرحة بالعيد أصبحت ماركة مسجلة لفئة معينة من الناس، وهولاء هم الذين سيطروا على البلد، ومقدراتها وخيراتها؛ براً وبحراً وجواً، وأصبحت الأرض بمن عليها مجرد أرقام خيالية وجبايات لاحدود لها، وتركوا الشعب اليمني بلا وطن أو حياة أو فرح أو مرتبات أو حقوق.. احتكروا الفرح والحياة وحدهم، ولو كان بيدهم بيع الأوكسجين والهواء والغبار لليمنيين لفعلوا دون أن يهتز لهم ضمير، ولن يردعهم حتى قليل من بقية في الدين والمروءة.
ومن قوة الله الحي تنبثق الحياة، وتنداح ولا تتوقف، ورغم الموت والحصار والظلم والجور والفساد والسلب والنهب إلاَّ أنَّ الحياة مستمرة، هناك قوة إلهية عظيمة تقف وراء هذا الشعب؛ تُصبِّره، وتُلهمُه، وتمنحه قوة عارمة.
تسع سنوات من الحصار على مدينة تعز، وتقطيع أوصالها عن بقية المدن والعواصم والعالم، ولكن الناس مازالوا يسافرون، ويعودون على ظهور الجبال وفوق بطون الوديان، ويرصفون الطرق الحَجَرية المباركة بصبر وعزيمة الرجال لم يعرفها التاريخ سوى عند الفراعنة والصينيين.
لم يتم حصار مدينة عبر التاريخ بهذا الطول الزمني الممتد مثلما يتم حصار تعز وأريافها وقراها وجبالها ووديانها ونسائها وأطفالها، ويوماً ما سيتم تدريس هذه الهمجية البربرية، وهذا الصمود الأسطوري في الجامعات، وفي بدايات دخول أجيال من أطفال المُحاصَرين؛ لكن التاريخ سيكون منصفاً، وأجيال جديدة تُقَلِّب صفحات الحصار الغاشم الحاقد الأسود البغيض العبثي.
كانت أفراح تعز بالأعياد تغمر اليمن كله من المهرة إلى صعدة، ومن حجور إلى حضرموت، كان اليمنيون يسافرون ويتجولون في أنحاء اليمن بدراجة هوائية، أو سيارة من أي طراز لا يخشون إلأ الله والذئب على الغنم.
كان اليمنيون يتبادلون زيارات الأعياد وكانت مُدنهم تتبادل الزيارات معهم، وكانت القرى والأرياف والأرواح تتعانق من جبال ريمة حتى شماريخ شمسان، ماذا حدث، وماذا عدا مما بدا.
أشتقنا والله للخلَّان والأحبَّة وللنهر والسائمات والبريد ولظل البرد والشواجب ؛هناك أحلامنا، ووحي قلوبنا، ومنتهى الآمال على كل حال.
نسأل الله، في هذه الأيام المباركة، أن يعيدنا إلى سواء السبيل، وأن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق؛ وإلى ما يحبه ويرضاه.