مقالات
فضلاً، لا تنسَ النيسكافيه!
اختارت جريدة أمريكية عبارة تتصدَّر بها. تقول العبارة: "جاء ترامب أولاً للقبض على المكسيكيين، فلم أعترض، لأنني لم أكن مكسيكياً. ثم جاء ترامب ثانيةً للقبض على المسلمين، فلم أعترض، لأنني لم أكن مسلماً. وعندما جاء ترامب ليقبض عليَّ، لم يبقَ أحد ليعترض!".
هذه العبارة هي تحوير لقصيدة ذائعة الصيت كتبها ذات يوم من أربعينيات القرن الماضي الشاعر والقس الألماني "مارتن نيمولر" في مواجهته النازية والنازيين.
تقول القصيدة:
"في البدء، اقتادوا الشيوعيين
لكنني لم أهتم،
فلم أكن شيوعياً.
ثم اعتقلوا الاشتراكيين
ولم أرفع صوتي،
لأنني لست اشتراكياً.
ثم جاؤوا إلى أعضاء النقابات
ولم أهتم قط،
لأنني لم أكن نقابياً.
ثم اقتادوا اليهود
ولم أصرخ،
فأنا لست يهودياً.
ثم جاؤوا إليَّ..
ولكن لم يكن قد بقيَ أحد
ليرفع صوته لأجلي".
...
منذ أن عرفنا أنفسنا -وتحديداً طوال امتداد تاريخنا الحديث والمعاصر- ونحن نضع رؤوسنا في عميق الرمال، كلما رأينا الأنظمة، التي تعاقبت على حكم هذا البلد، تقمع أهل الرأي والموقف والمبدأ -من الأنصار والخصوم على السواء- وتنكّل بهم ما بين قتل وسجن وتعذيب ومطاردة وغيرها من أشكال الاضطهاد وألوان الامتهان، بل حتى من لمْ يكن له رأي ولا موقف -وربما لا مبدأ أيضاً- لم يكن يسْلم على الإطلاق!
وكنا - وما زلنا- نرى كل هذا يحدث ملء أبصارنا وأسماعنا، فنلزم الصمت.
نرى كل هذا فلا ننبس ببنت شفة. نرى كل هذا فندير وجوهنا إلى الجهة الأخرى.
نظل نزعم أننا لم نرَ شيئاً قط، ولم ندرِ البتة بما يحدث.
ولا نصرخ إلاَّ في اللحظة التي يطالنا فيها هذا القمع وذلك التنكيل، أو يطال أهلنا الأقربين أو رفاقنا المباشرين!
يُقمَع اليساريون، فيصمت القوميون .. وإذا قُمع القوميون، سكت الإسلاميون .. وإذا قُمع الإسلاميون، يتعامى الليبراليون .. وهكذا دواليك.. تحضر الدجاجة، فيغيب الديك!
وهو ما يُعَدّ ترجمة واقعية فصيحة لقصيدة "نيمولر" ..
وفي هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور، يتواصل اعتقال مناضلين وناشطين من شباب بلدي في مجالات الرأي السياسي والدفاع عن الحقوق والحريات في صنعاء وعدن ومدن وقرى يمنية عدة، غير أنني أستمع إلى تشكيلة من أغاني 'فيروز' و'الساهر' و'الآنسي'، وفي يدي كوب ممتلىء ب'النيسكافيه'! .. فاذا ما سمعت أو رأيت شيئاً من هذي الجرائم، لا تنسَ 'النيسكافيه'!
أعداد الضحايا تزداد في كل لحظة تستعر فيها أوار هذه الحرب الغاشمة، وحجم المأساة يكبر ويتضخم ويتعاظم.
أعداد الضحايا تزداد في كل لحظة .. حتى هذه اللحظة.
وهذي الحقيقة الوحيدة التي لا تحتاج إلى 'نيسكافيه' لاستيعابها جيداً.