مقالات

فضل أبو غانم في ذمة الله

13/04/2025, 07:52:20

رحل الباحث والأستاذ الأكاديمي فضل أبو غانم عن الدنيا. كان أبو غانم في مقدمة الدارسين للقبيلة في اليمن. فكتابه المهم «البنية القبلية في اليمن: الاستمرار والتغير» مبحث علمي ريادي للغوص في أعماق التركيبة القبلية، وخصوصًا في الشمال وشمال الشمال.

فضل أبو غانم، ابن قبيلة أرحب والمنتمي إلى إحدى أسرها المهمة، انصرف كطالبٍ مجد إلى التعليم الحديث، فدرس علم الاجتماع، ونال درجة الدكتوراه عن أطروحته العلمية حول البنية القبلية، كواحد من أبناء ثورة الـ 26 من سبتمبر.

تفتق وَعْيهُ على قراءة واقع القبيلة، ودورها السلبي والإيجابي في الموقف من الثورة، وكان فضل وأسرته من المنخرطين في الثورة والمدافعين عنها.

أفادَ الدكتورَ فضلَ انتماؤه للقبيلة ومعرفته بعاداتها وتقاليدها وأعرافها وشؤونها العامة والخاصة، في دراسته الاجتماعية والعلمية للقبيلة؛ فهو يدرسها في بيئتها الواقعية، وتاريخ نشأتها وتطورها، وقابليتها للتغيير كظاهرة تاريخية وسياسية وثقافية.

قرأ في كتابه القبيلة كأحد أهم المجالات التي تحتفظ بكثير من عناصر وخصائص الحياة التي كانت سائدة في المجتمع القبلي العربي القديم.

ويرى محقًّا أن أهمية الدراسة تكمن في كونها تتناول البناء القبلي في فترة أصبحت القبيلة فيها تلعب دورًا رئيسًا ومؤثرًا في الحياة السياسية.

يقع الكتاب (الأطروحة) في 400 صفحة من القطع المتوسط، ويشتمل على ثمانية فصول، وعشرات العناوين. وأهم ما في الكتاب ملاحق «قواعد السبعين»، وبعض «قواعد التهجير»، و«الضمان القبلي» الخاصة بمشايخ الضمان. ولعلَّ كتاب «البنية القبلية في اليمن» هو أول توثيق علمي لهذه القواعد الحية والفاعلة حتى اليوم. فبعد توثيق ودراسة الدكتور فضل أبو غانم، قام الدكتور رشاد العليمي بدراسة «القضاء القبلي»، وكانت «قواعد السبعين» هي الأساس. وكان المبحث المهم أيضًا هو دراسة المستشرق البريطاني بول دريش «الدولة والقبائل في اليمن». وقد انغرس هذا الباحث في بيئة حاشد القبلية لعدة أعوام، ودرس عميقًا التركيبة والتراتب المجتمعي في القبيلة، والقيم والأعراف والتقاليد والمصطلحات، ووقف مطولًا إزاء «قواعد السبعين».

يبدأ كتاب «البنية القبلية» بمقدمة عامة تتناول مشكلة الدراسة، والجوانب النظرية والتطبيقية، والصعوبات، ومنهج الدراسة، والأدوات.

ويكرس الفصل الأول للدراسة النظرية لمفهوم البناء الاجتماعي ومكوناته، ويدرس الفصل الثاني النظام القبلي، والمكونات الاجتماعية والأيكولوجية في الفصل الثالث.

ويدرس الفصل الرابع النسق السياسي، أما الخامس فنظام الملكية والحيازة، ويتناول الفصل السادس التراتب الاجتماعي، والسابع العُرْف القبلي، أما الثامن فيدرس التغير الاجتماعي، ثم الملاحق.

الكتاب رائد في دراسة البنية القبلية، وميزته أن الباحث طاف بالقبيلة وهو أحد أبنائها، وعلى دراية بقيمها وتقاليدها وعاداتها، وكانت دراسته للبنية القبلية كلها دراسة علمية، وقد وثق للقديم، ومظاهر التغيير والتحديث.

الباحث شديد الاهتمام بدراسة بقاء ورسوخ قيم وأعراف القبيلة وتشريعاتها، ويرى أن سيادة الملكية الخاصة، وبالأخص في مناطق الدراسة، مردها أن اليمن ليست أرضًا مفتوحة، عكس العديد من المناطق العربية والإسلامية الأخرى.

ويشير محقًا إلى أن طبيعة البيئة والتركيبة المجتمعية حالت دون قيام نظام إقطاعي أو عبودي، طبعًا بالمفهوم الماركسي. ولكن رؤيته الدقيقة والصائبة هي مفهوم الأرض المفتوحة في الفكر الإسلامي، وهو ما يعم ويشمل اليمن كلها، إلا أن بعض الأئمة قد صير بعض المناطق مفتوحة أمام المغيرين من القبائل الموالية، وتحولت المناطق المفتوحة إلى أراضٍ خراجية.

درس الدكتور فضل البنية القبلية من داخلها كواحد من أبنائها، وهو أيضًا ما درج عليه المستشرق البريطاني بول دريش بعد انغراسه لسنوات في حاشد.

الأحرار اليمنيون علقوا آمالًا كبيرة على القبيلة، وعندما فشل الرهان بعد انكسار 1948 أنحوا باللائمة على القبيلة.

كان أبو الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري أكثر إيمانًا رومانسيًا بدور القبيلة، في روايته «مأساة واق الواق»، وظل مخلصًا لهذا الاعتقاد بعد الثورة السبتمبرية، وخروجه إلى الشمال واستشهاده فيه معروف، وقد ورث التجمع اليمني للإصلاح هذا الاعتقاد.

المثقفون الثوريون والأحزاب الحديثة رأوا في القبيلة، أو حمَّلوها، كل الشرور ومآسي التاريخ. لكن القبيلة لم تُقرأ كما يجب، أو أن دراستها جاءت من خارجها، باستعارة المصطلحات والمفاهيم العلمية لمجتمعات أخرى ولمراحل مختلفة؛ فكانت رؤاها وشعاراتها الثورية ضلالًا مبينًا، فعزلتها عن القبيلة ووضعتها في مواجهة معها.

تحزيب القبيلة وأسلمتها لا يقل خطأ وخطرًا عن تجريمها، وتحميلها خيبات وهزائم القوى الحديثة وعجزها.

يلاحظ أن الحدود الطبقية والفوارق الاجتماعية في اليمن - كما في العديد من البلدان النامية - تتسم بالميوعة والتداخل، ولم تمر هذه البلدان بـ «المراحل الخمس» التي ذكرها ماركس وإنجلز في مراحل باكرة، وبدأ التراجع عنها فيما يسمى بـ«نمط الإنتاج الآسيوي». كما أن مفكرين مهمين اعتبروا نظرية المراحل الخمس شكلًا من أشكال المركزية الأوروبية الاستعمارية.

اهتم الدكتور فضل كثيرًا بالانتماء الحضاري للقبيلة، والصلة بأمجاد سبأ ومعين وحمير؛ وهو انتماء مجيد وغير منكور. وفي حقيقة الأمر، فإن القبيلة اليوم هي ابنة الحاضر وصناعته، وزعم انتمائها للماضي أو إرثه وهمٌ كبير، وخطره أكبر من نفعه.

دراسة الدكتور لخصائص القبيلة وتميزها وعقلانيتها وانفتاحها بمستوى معين مهمة، كما أن الذكاء حاضر، وانغلاق القبيلة محدود. فالهمداني مؤرخ اليمن الكبير يتحدث عن قبائل حاشدية تبكلت، وقبائل بكيلية تحشدت، وجذرهما واحد.

انفتاح القبيلة واقع شهد عليه الانفتاح على الديانات الثلاث، وقابلية التطور والتغيير، وهو ما أشار إليه الباحثان: فضل أبو غانم، وبول دريش. وهناك ملمح مهم لم يُدرس كما ينبغي، وهو التقارب حد التداخل بين المجتمع القبلي والأهلي، وقد درس الدكتور محمد عبد الملك المتوكل هذه الميزة.

ذاكرة القبيلة لا تزال مشدودة أكثر إلى الماضي، وسياسات الحكومات المتعاقبة تدفعها أكثر فأكثر إلى الماضي، وهي تحتمي به في مواجهة رياح العصر وتيارات الحداثة والتجديد.

لفتني مقال للأستاذ فيصل الدودحي نشر في موقع «النداء»، بعنوان «اليمن دولة لم تكتمل، وقبيلة لا تريد أن تموت». فهو يرى أن القبيلة اليمنية تكاد تكون استثناء من كل المجتمعات. فهي - كرؤيته - بنية ذهنية تستوطن الوعي المجتمعي، ولها حضورها في هندسة العلاقات الاجتماعية، و… و… و…

ويرى محقًا عودتها إلى الماضي، والانتصار له على حساب المستقبل. ويقرأ الارتدادات المتكررة، وأنه منذ القرن السادس تموضعت أنماط السلطة ضمن تصورات سلالية لم تدّعِ فقط حقها الإلهي في الحكم، بل وجدت في البنية القبلية حاضنة ملائمة لترسيخ مشروعها السياسي؛ ومنذ يوم الناس ذاك وحتى قبله، فإن تحالف الحكم - سلاليًّا كان أو جمهوريًّا - مع زعماء القبائل هو جوهر الأزمة القائمة حتى اليوم، والقبيلة ضحية كبقية فئات الشعب الأخرى.

ويقرأ توقفها عند حدودها، مما أعاق ويعيق بناء الدولة. وبغض النظر عن مدى دقة الحكم، فإن الأهم في المقال هو طرح السؤال عن حقيقة القبيلة: هل هي بناء اجتماعي، أم نسق ثقافي، أم مجال جغرافي محدد، أم أنها منظومة معقدة تجمع كل هذه الأبعاد والتصورات؟ داعيًا إلى إعادة قراءة الواقع اليمني.

والواقع أن شيطنة القبيلة وتحزيبها وجهان لعملة واحدة، ونتيجتهما وخيمة على الشعب اليمني كله.

الإمامة جيّشت القبيلة لاجتياح المدن والمناطق الزراعية وقمع التمردات، أما الإسلام السياسي فحزّب القبيلة، واستخدمها لضرب الحركة الوطنية الحديثة، وإعاقة بناء الدولة، ومحاربة التطور والحداثة والوحدة.

وشيطنت الأحزاب الحديثة والقوى الثورية وتيار الحداثة القبيلة، ووصمتها بالرجعية والتخلف، وحمّلتها مسؤولية فشلها وعجزها عن قراءة الواقع والقدرة على التغيير والبناء.

التحية اللائقة بالدكتور الراحل فضل علي أحمد أبو غانم، الباحث الاجتماعي، ورائد دراسة القبيلة، ووزير التربية والتعليم، والعضو القيادي في المؤتمر الشعبي العام، تكون بإعادة قراءة مبحثه المهم، والتمعن في دراسة البنية القبلية كما هي، وعلاقتها بالدولة التي تكون قوتها ضعفًا للدولة، والعكس صحيح، كقراءة الباحث فضل أبو غانم.

مقالات

جثة مصلوبة على المدرّعة.. عنف بلا كوابح وأمن خارج القانون

المشاهد المصوّرة، التي أظهرت جثة المواطن اليمني همّام اليافعي وهي مربوطة على مقدّمة مدرّعة أمنية في محافظة أبين، أثارت موجة استياء وغضب واسع، وبعثت رسائل سلبية عن واقع المؤسسة الأمنية، ومستقبل مشروع الدّولة.

مقالات

اليمن تفتقد مثل زياد بن أبيه!

كان للحارث الثقفي جارية تسمى سمية، وعبد رومي يسمى عُبيداً، فزوَّج عبيداً بسمية، فأنجبت له غلاماً فسمَّاه زياداً، وظهرت عليه مخائل النجابة وهو صغير، فتعلم في كُتاب في الطائف فأعجب به المعلم، وجعله موضع ثقته، فقال وسنه في الثالثة عشرة: "حين أعلم أصغر مني فإني أتعلم لأني بذلك أذكر ما نسيت وأتدبر ما حفظت".

مقالات

أبو الروتي (30)

نزولًا عند رغبة أخي سيف، توقفتُ عن الذهاب إلى السينما حتى أثبت له أنني أحبّه، واحترمه، وأنه أهم لي من السينما.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.