مقالات

من عجين صالح إلى عجين الرياض

31/10/2025, 13:37:08

في لحظةٍ من الصراحة التي لم يقصدها، نطق علي عبدالله صالح بعبارته الشهيرة: «هم بضاعتي وخبزي وعجيني» في معرض وصفه لرجالات حكمه.
بدت يومها تبجّحًا يعكس زهوًا مَرَضيًا متأصلًا فيه، لكنها مع مرور الزمن تحوّلت إلى شهادةٍ دامغة على طبيعة نظامه، وإدانةٍ مفتوحةٍ لعصرٍ ما زال يحكمنا حتى بعد سقوطه شكليًا.

لم يكن صالح أكثر صدقًا منه وهو يتفوه بها؛ فقد لخّصت تلك الجملة – رغم ما فيها من غرورٍ فجّ – حقيقةَ نظامٍ صنع طبقةً سياسيةً على شاكلته، وربّاها على الولاء الأعمى بدل الكفاءة، وعلى الهدم بدل البناء.

ومع الأيام، غدت تلك العبارة مرآةً للواقع الراهن، إذ ما يزال البلد يُدار بالعقول ذاتها التي صاغها نظامه، وإن تبدّلت الأسماء وتعدّدت الولاءات.

واليوم، بعد أكثر من عقدٍ ونصف على سقوطه المعلن، تعود عبارته إلى الحياة، لا لأننا نستدعيها من ذاكرة الماضي، بل لأن الواقع نفسه يعيد إنتاجها بنسخةٍ أشد بؤسًا وأقل خجلًا.
فـ"العجين" الذي شكّله صالح لم يجفّ بعد؛ ما زال يُعجن كل يوم بأيدٍ مختلفة، لكن بالوصفة القديمة ذاتها.

السجال البليد الدائر مؤخرًا بين رئيس مجلس النواب سلطان البركاني وأعضاء المجلس الرئاسي المعيَّن من الرياض وأبو ظبي، ليس سوى نسخةٍ محدَّثة من عبث ذلك العهد الذي لم يغادرنا قطّ؛
فبدل أن يتصارع الطرفان على خدمة الوطن، انشغل كلٌّ منهما بتثبيت ولائه للجهة التي تحرّكه، متناسين أنهم جميعًا أبناء مدرسةٍ واحدة في إدارة الخراب وتبادل التهم.

وما نعيشه اليوم من فشلٍ متكررٍ في إدارة الدولة، ومن تبادلٍ للاتهامات بين بقايا “الشرعية” ومكوّنات المشهد الأخرى، ليس إلا استمرارًا لتلك البنية السياسية التي أنشأها صالح وأتقن تشكيلها.
كان مشروعه الحقيقي – دون أن يصرّح به – صناعة “رجالٍ تابعين” يدينون بالولاء لا للفكرة ولا للوطن، بل للكرسي ومن يجلس عليه؛ رجالٌ يُجيدون التملّق أكثر مما يُجيدون الحكم، ويقاتلون من أجل النفوذ لا من أجل المبدأ.

وها نحن نحصد اليوم نتاج ذلك العجين السياسي الذي أورثه للبلاد: عقولٌ مفرغة من الرؤية، ونخبٌ تعيد إنتاج الفشل ذاته في كل مرة، ثم تلوم الشعب على صمته.

لم تُهزم الثورة اليمنية بالسلاح وحده، بل أُعيد احتلالها بالعقول نفسها التي صاغها صالح في مختبر حكمه الطويل؛
العقول التي تعلّمت كيف تبرّر الفساد باسم الواقعية، وتدافع عن التبعية باسم “التحالف”، وتخلط بين الدولة والزعيم كما كانت تفعل بالأمس القريب.
ولذلك لم تسقط الثورة بطلقة، بل بصفقة.

ولأن الفراغ لا يُملأ إلا بما يشبهه، فقد تحوّلت تلك العجينة إلى قاعدةٍ للولاء الجديد؛ عجينةٍ أُعيد عجنها هذه المرة بأيدٍ خليجية، لكن بالمقادير الصالحية ذاتها.

وما نراه اليوم من خصامٍ بين مجلسٍ فاقدٍ للشرعية الشعبية ورئاسةٍ بلا سلطةٍ حقيقية، ليس سوى امتدادٍ لذلك العهد الذي لم يمت بعد.
يتخاصمون على الهامش، فيما تتساقط البلاد من بين أيديهم، ويتراشقون بالشعارات ذاتها التي كان يرددها صالح عن “الشرعية الدستورية” و”المسؤولية الوطنية”، بينما يزداد المشهد تفسخًا وانقسامًا.

عبارة «هم بضاعتي وخبزي وعجيني» لم تكن زلّة لسان كما يظن البعض، بل اعترافًا يختصر عصرًا بأكمله.
إنها اليوم وثيقة إدانة لا تسقط بالتقادم، لا بحق رجلٍ فحسب، بل بحق نظامٍ وثقافةٍ ما زالت تتحكم بمصير اليمن.

والمؤلم أن هذا الاعتراف لم يُدفن بصاحبه، بل ظلّ حيًّا في تلامذته، يكرّر نفسه في كل عهدٍ جديد.
فالذين حكموا اليمن بالأمس، ويزعمون حكمها اليوم… ما زالوا من عجينه، وما زلنا نحن، للأسف، ندفع الثمن.

مقالات

أزمة الثقة في اليمن: من انقسام الداخل إلى استغلال الخارج (3)

على الرغم من أن ثورة فبراير فتحت الباب أمام إمكانية إعادة تأسيس الدولة على أسس حديثة، فإن الواقع أثبت أن الدولة التي كانت قائمة لم تكن سوى شبكة مصالح ومراكز نفوذ مترابطة حول شخص الحاكم، أكثر منها بنية مؤسسية قادرة على الصمود أو التجدد.

مقالات

الجنجويد والإسلاميون كارثة السودان

يتعرَّض السودان - كشعب وكيان - للدمار. قطبا الكارثة الإسلاميون: جماعة الجبهة القومية الإسلامية: جناح الترابي، والبشير: المؤتمر الشعبي، والمؤتمر الوطني. والطرف الثاني: «الجنجويد»؛ التدخل السريع حالياً.

مقالات

صالح والصورة التي باعت الوهم لليمنيين في سبتمبر (2/1)

لثلاثة عقود، ظلّ المشهد نفسه يتكرر: منصة عالية في ميدان السبعين، وقائد يقف وسط الحاضرين بقامة قصيرة، لكنه يبدو وسط ضيوفه من الرؤساء والملوك عملاقاً في مناخ الاستعراضات العسكرية المهيبة. خطوات منتظمة، أنغام موسيقية صاخبة، وأزياء عسكرية ملوّنة تخطف الأنظار وتزين الميدان.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.