مقالات
في يومها العالمي
لغتنا العربية هي أكثر اللغات تحدُّثاً ونطقاً بين مجموع اللغات السامية، وإحدى أكثر اللغات انتشاراً في العالم، وإحدى اللغات الرسمية الست المعتمدة في منظمة الأمم المتحدة، وهي لغة مقدَّسة باعتبارها اللغة التي نزل بها القرآن.
وقد أثَّرت اللغة العربية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على عديد من اللغات الأخرى، كالتركية والفارسية والإسبانية والبرتغالية، وعدد غير قليل من لغات قارتي آسيا وإفريقيا، وبعض لغات جنوب أوروبا.
وإذْ نحتفل في 18 ديسمبر من كل عام باليوم العالمي للغة العربية، فإننا نقف، ولو من منطلق هذه المناسبة فحسب، قبالة واقع هذه اللغة اليوم، وهي الوقفة التي تتطلب قدراً كبيراً من الاهتمام الجاد، بل والمسؤولية العظمى، ما يستدعي أكثر بكثير من مجرد الكتابة المناسباتية أو التناولات الموسمية، حتى وإنْ أسهمت فيها كتيبة من الكُتَّاب والأساتذة والباحثين والنّقاد، أو حتى نُظِّمت لأجلها حملة من الدراسات والندوات والأطروحات العلمية.
فالواقع الذي تعيشه لغة الضاد اليوم لا يمكن وصفه بأقل من صفة المأساة الفادحة، ولا يمكن اعتباره أدنى من وضع الخطورة الداهية.
وفي تناولي المتواضع هنا، أحصر السطور في السؤال الأهم اليوم: ما الذي حلَّ باللغة العربية في زمن العولمة؟ وما واقعها اليوم في وسائط الإعلام الجماهيري أو التواصل الاجتماعي في ظل الثورة التقنية الاتصالية الكونية الكاسحة؟
وفقاً لأطروحات الفكر الحديث فإن اللغة، أية لغة، صارت في ظل العولمة وسطوة شروطها وقوانينها، متأثرة ومتفاعلة بالضرورة مع غيرها من اللغات في العالم. فالعولمة، بمفهومها الشامل اليوم، لم تعد محصورة الأثر في مجالات الاقتصاد والسياسة والتقنية، بل تجاوزتها إلى مجالات أخرى ذات ارتباط وثيق ومباشر بالثقافة والإعلام واللغة، وقد صارت هذه المجالات سلعاً خاضعة للتداول، لاسيما لأهداف تجارية، مثل تعلُّم اللغات الأجنبية الأكثر شيوعاً بين شعوب العالم كالإنجليزية والفرنسية.
وصار من البدهي أن العولمة غدت مرتبطة بالهيمنة الثقافية والسياسية، وبالتالي امتدت هذه الهيمنة إلى التعاطي اللغوي والإعلامي بتعبيراته المختلفة، فتكتسح الهوية الثقافية للمجتمعات اللغوية، وتجلب الخصائص الثقافية والفكرية للعولمة اهتماماً واضح المعالم عبر عدد من التخصصات العلمية، بحسب د. أحمد عبدالسلام في بحثه عن «العولمة والثقافة اللغوية»، الذي تقدَّم في ختامه برأيه عن ضرورة إنشاء مؤسسة تختص برعاية اللغة العربية ومتابعة وسائل تحقيق نشرها وتطويرها.. غير أن هذا المشروع تكرّر طرحه كثيراً من دون إقدام أية حكومة أو جهة مؤسسية لتحقيقه على أرض الواقع، وكمشروع المجلس الأعلى للغة العربية الذي أُقترح تشكيله واتباعه بالجامعة العربية مراراً من دون أن يرى النور.
إن الكنز النفيس، الذي تمثله لغتنا العربية، كألفاظ ودلالات و...، لا يزال يشكل رصيداً غير قابل للنضوب بسهولة، ومخزوناً احتياطياً كأية ثروة لم تُستخدم بعد، لدى أي شعب من شعوب المعمورة، ما يجعلها قادرة على الاستمرار والتطور.
غير أن عجز العرب عن الحصول على موقع متقدم ومؤثر في ميادين وأسواق العولمة التقنية والتجارية يجعل من موروثهم الثقافي، وبالتالي اللغوي، مهدداً بالانكفاء فالتقهقر ثم الانقراض، فالمصطلحات والمفاهيم والدلالات المستخدمة في القاموس اللغوي العولمي الحديث صارت تبتعد عن أي انتماء لجذور اللغة العربية، على العكس تماماً مما كان في السابق، حيث كان جل - إنْ لم يكن كل - المصطلحات والمسميات في شتى العلوم لدى كثير من شعوب العالم ذات جذور لغوية عربية أو ذات اشتقاقات من لغة الضاد.
وبدلاً من أن يقوم العرب بثورة لغوية مضادة، لتحقيق مكانة متقدمة للغتهم في مجالات وميادين العولمة وأسواقها المتعددة والمتنامية بوتيرة يومية عالية، راحوا ينجرُّون وراء التبعية اللغوية (للإنجليزية في مشرق العالم العربي وللفرنسية في مغربه)؛ إيماناً راسخاً منهم، للأسف الشديد، بأن هاتين اللغتين بالذات هما خير أدوات العلم والمعرفة، وأفضل قنوات الاقتصاد والسياسة. وطالما استمر المنوال على هذا النحو، فإن التراث اللغوي العربي سيغدو قريباً جداً في خبر كان، ولا هم يحزنون.
والحق أن سطوة العولمة الاتصالية، عبر جبروت الفضائيات وشبكة الإنترنت، قد أدخلت تعديلات وتبديلات على اللغة العربية باستخدامها المُغاير من قِبل أهلها، والأجيال الجديدة تحديداً، فإذا بلغة جديدة تجري على اللسان.
إن مصطلح «العربيزية» دخل بقوة في القاموس اللغوي اليوم، بعد أن سطا بشدة قاهرة على الممارسة اللغوية اليومية في أوساط الشباب المتهافتين على استخدام وسائط وأجهزة الاتصال الحديثة بصورة بالغة الشره.
لقد حلَّت المفردات الأجنبية محل المفردات العربية، في مضمار هذا الاستخدام، وغدت حتى الحروف تُرسم بأرقام (ح صارت 7 كمثال، وغيرها كثير)!.. وباختصار شديد: تتهاوى العربية اليوم أمام جرَّافة «العربيزية»، أم ترانا لن نفهم معنى جرَّافة إلاَّ إذا نطقناها: بلدوزر؟!
إن من دواهي الدهر أن يصير استخدامنا الصحيح للقاموس التراثي النفيس للغتنا ضرباً من التخلف والتقهقر، فيما إيغالنا في استخدام القاموس اللغوي الهجين، يغدو نوعاً من التحضُّر والعصرنة.
ومجرد نظرة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم استراقة سمع أسرع على محادثات الشارع العربي، تكفي للحكم على أن لغتنا العربية ليست في خطر، كما كنا نُردِّد مُحذِّرين قبل عقدين من الزمان على الأقل، بل صارت على شفا الهاوية أو حافة القبر.