مقالات
قراءة في ثمانون عاما من الرواية في اليمن، د. عبد الحكيم باقيس
الدكتور عبد الحكيم محمد صالح باقيس -أستاذ الأدب والنقد المشارك في كلية الآداب بجامعة عدن- قرأت كتابه فور إهدائه لي في العام 2014، وقد أعدت قراءة كتابه المرجع المهم، والدارس والمتتبع الدقيق لنشأة الرواية في اليمن، وبواكيرها العربية بذهنية الباحث المحقق والعميق.
الباحث قارئ للبدايات التاريخية بدقة؛ رابطًا بين البدايات الباكرة، والرؤى والقضايا والقيم الفنية والاجتماعية لها، يدرس المراحل الثلاث التي مرت بها الرواية في اليمن.
في المقدمة يدرس أفق الخطاب الروائي، وتحقيبه، كما يتناول البدايات الباكرة للسرد العربي: «التيجان»، و«أخبار عبيد بن شرية»؛ كأولى حلقات السرد العربي. ويقرأ العطاء اليمني حتى في أحلك العصور في كتب الأخبار، والمسامرات، والسير، والتراجم الذاتية، و.. و..إلخ.
ويدرس ظواهر التداخل السردي والشعري في الأدب العربي القديم، ويربط بروز الظاهرة بالقرن السادس الهجري. ويرى إسهامات اليمنيين الممتدة في السرديات الحديثة: القصة، والرواية التي أضحت كقرائته الصائبة: ديوان أدب هذا الزمان بعد زحزحة الشعر عن مكانه المستحوذ منذ القدم. ويعيب غياب النقد الموازي لإبداعات الروائيين؛ بعيدًا عن غبار النقد الصحفي الترويجي.
يبحر الناقد الأكاديمي المتمكن عبر ثمانين عامًا من عمر الرواية اليمنية؛ دارسًا البدايات الباكرة منذ ولادة «فتاة قاروت»، و«الصبر والثبات»، في أندنوسيا على يد أحد رواد الأدب والصحافة والإصلاح: المهاجر الحضرمي أحمد بن عبد الله السقاف.
كما يقرأ عميقًا الباكورة الأولى في الوطن عدن: رواية «سعيد»، عام 1939، والثانية «كملاديفي»- زهرة الإله 1947، والروايتان الريادتان لواحد من أهم رواد وصناع الحداثة الأدبية والفكرية والصحافة والسياسية: أبو الدستور - حسب تسمية الأحرار اليمنيين-، والأب الروحي للصحافة اليمنية، ورمز النهضة اليمنية: محمد علي لقمان.
وإذا كان السقاف في المهاجر الحضرمية (أندنوسيا) قد أبدع اللبنتين الأوليين في الرواية اليمنية بفتاة قاروت، والصبر والثبات؛ فإن الرائد في الوطن محمد علي لقمان قد أبدع أو وضع برواية سعيد، وكملاديفي حجر الزاوية للبناء الروائي، فإن الدكتور عبد الحكيم محمد صالح باقيس برسالته للدكتوراة «ثمانون عامًا من الرواية في اليمن: قراءة تاريخية للخطاب الروائي وتحولاته»، قد مثل ريادة نقدية زاكية.
فالرائد الأكاديمي الناقد قد أبحر عميقًا في محيط السرد من أقصى إلى أقصاه، ومر على المراحل المختلفة للإبداع الروائي، متتبعًا بدقة وعلم التطورات في السرد المتنامي منذ الثلث والنصف الأول من القرن الماضي في المهجر والوطن.
يدرس الكاتب الناقد تشكيلات الخطاب الروائي، وأهم مؤشرات تحولاته، كما يدرس الأبعاد الحضارية، والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية العامة لنشأة التجربة الأولى في المهجر أندنوسيا أواخر عشرينات القرن الماضي: السقاف، وروايته «فتاة قاروت»، و«صبر وثبات»، وريادة الداخل اليمني عند رمز الحداثة والتنوير الرجل الكثير المتعدد: محمد علي لقمان، وروايته «سعيد»، و«كملاديفي»، أواخر ثلاثينات القرن الماضي وأربعيناته كريادة ثانية داخل الوطن.
الباحث الجاد والمدقق يقرأ مراحل وتاريخ ومحيط الريادة الأولى والثانية، وفترات الانقطاع في الماضي، ويلاحظ الخصب والازدهار حاليًا، حيث لا يمر عام إلا وتصدر عدة روايات، ويستشهد بمرحلة الازدهار بأعمال وجدي الأهدل، وحبيب سروري، وأحمد زين، وعلي المقري، وسمير عبد الفتاح، وآخرين. يقرأ التحولات من الموضوعات التقليدية والمكرورة إلى قضايا مغايرة ومختلفة ومبكرة؛ مدللاً بأعمال محمد عبد الولي. ويدرس تحولات الرواية التسعينية؛ مشيرًا إلى رواية «رجال الثلج»، لعبد الناصر مجلي، واصفًا إياها بالاستباقية.
ويدرس ظهور خطاب روائيي المهمشين، رابطًا ذلك بوعي الكاتبات بسلطة الكتابة؛ ممثلاً نبيلة الزبير، وعزيزة عبد الله، ونادية الكوكباني؛ مبشرًا بأن ذلك آخذ في الاتساع: هند هيثم، وبشرى المقطري، وندى شعلان وغيرهن. ويرى أن أبرز مؤشرات خطاب المهمشين التوجه إلى تناول موضوع آخر، والتركيز على تسريد أصوات المهمشين اجتماعيًا: علي المقري «طعم أسود رائحة سوداء»، ويذكر «اليهودي الحالي»؛ مشيرًا أنه بات يشكل أحد أهم ظواهر الخطاب الروائي اليمني الجديدة.
ويقرأ بدايات الحضور على استحياء في روايتين مختلفين: «ركام وزهر»؛ يحيى علي الإرياني في صورة المعلم سالم اليهودي، و«زهافار»، لياسر عبد الباقي؛ صورة اليهودي المتطرف، ويدلل في السياق «ظلمة يائيل»، لمحمد الغربي عمران. ومشيرًا إلى امتداد خيط اليهودي في نصوص متتالية: «هوة»؛ بسام شرف الدين، ويبشرنا أن ذلك مجال دراسة قائمة بذاتها بعنوان «صورة اليهودي في الرواية اليمنية».
ويتناول ظاهرة الإرهاب ممثلاً برواية «السمار الثلاثة»، لسعيد عولقي، و«الملكة المغدورة»، لحبيب سروري. كما يدرس التحول في التشكيل الروائي والتجريب، وتعدد صيغ السرد وتقنياته، ويتناول النصوص الإخبارية- الرحلة إلى عالم الآخرة، و«مأساة واق الواق»، للزبيري ونصوص الحكي التراثي: «صنعاء مدينة مفتوحة»، و«ركام وزهر»، ليحيى علي الإرياني.
رائع دراسة تعانق السردية اليمنية بالعربية، ونماذجها: «السمار الثلاثة»، لسعيد عولقي بـ«ثرثرة فوق النيل»، لنجيب محفوظ، كما يدرس التناص: عبد الرحمن منيف في «مدينة الصعود»، عند محمد مثنى، والطيب صالح في «الميناء القديم»، لمحمود الصغيري. ويميز بين ثلاثة أجيال: رواد البداية.
ويدرس خصائص خطابهم الفكري. ويرى محقًا أنهم جيل مؤسسين في الصحافة، وفنون الأدب، تشوب تجربتهم ما تشوب البدايات. ويورد مستشهدًا بـ«يوميات مبرشت»، للطيب أرسلان، وروايات باكثير، و«حصان العربة»، و«مذكرات عامل»، لعلي محمد عبده، و«مأساة الواق الواق»، للزبيري.
ويدرس أهم خصائص التجربة الأولى المضمونية والفنية وبيئتها وسماتها العامة، كما يتناول في المرحلة الثانية الرواية الواقعية (الجيل الثاني): حامل اللواء- كرؤيته محقًا- محمد عبد الولي برواية واحدة «يموتون غرباء»، ويعتبرها البداية الفنية الحقيقية لولادة الشكل الروائي الحديث باشتراطاته ومكوناته الفنية؛ مشيدًا بالأثر الذي أحدثته روايته الثانية «صنعاء مدينة مفتوحة»، على مستوى بنية الشكل الروائي، أو التركيب الحكائي الثلاثي، وثنائية السارد، والمتلقي على الروايات اليمنية اللاحقة: «الميناء القديم»، و«قرية البتول».
ويشبه «الرهينة»، بجرار القطار الذي سحب بقية عربات الرواية نحو مرحلة جديدة؛ مزمنًا المرحلة الواقعية بنهاية القرن الماضي، معتبرًا رواية «السمار الثلاثة»، من علامات الخطاب الروائي المفارق. ويعتبر الناقد الأكاديمي الانشغال بقضايا الواقع والموضوعات الكبرى أهم ما يميز جل روايات هذه المرحلة؛ ملاحظًا أن زمن القضية مفارق لزمن الكتابة. يضيف: "وربما ترجع هذه الظاهرة إلى تقية سياسية مارسها أكثر الكتاب بسبب القمع، وغياب الحريات؛ فأدت خشيتهم إلى ما أوردوه في مدة أقدم قليلاً".
يدرس الرواية الجديدة (الجيل الثالث)، ويطلق عليه الجيل التسعيني الذي بدأ ممارسة الكتابة الروائية بوعي تام لطبيعة النص الروائي. فالخيال، والخبرة، والثقافة حاضرة في بناء النص الجديد، وللجيل اطلاع بالتجارب العربية والعالمية، وهو مبشر بتطور كبير كما يرى في الخطاب الروائي، ويمثل بـ«الملكة المغدورة»، لحبيب سروري، و«إنه جسدي»، لنبيلة الزبير.
ويجعل مطلع القرن الميلادي موسم زيادة معدلات النشر الروائي، عندما بدأ التسعيني يكرِّس وجوده في الساحة الثقافية بفضل توفر عوامل عديدة يرى أن أهم عواملها توفر الحرية السياسية، وقيام الأحزاب، وحرية التعبير، وظهور مؤسسات أهلية تُعنى بالثقافة.
يشير الدكتور أن لديه دراسة بعنوان «الرواية اليمنية الآن» ترصد تحولات الخطاب الروائي منذ مطلع الألفية الجديدة. كتاب «ثمانون عامًا من الرواية في اليمن» جهد علمي متميز متتبع متقصٍ ودقيق وعميق في دراسة التطورات في البناء الروائي شكلاً ومضمونًا؛ فهو يقرأ الظواهر والقضايا المتناولة، والقيم الفنية، والخصائص الإبداعية وتنوعها وتعددها واختلافها من مرحلة لأخرى.
تقع الدراسة الأكاديمية في 317 صفحة بالقطع المتوسط، وتشتمل على ستة فصول، تدرس جل الإنتاج الروائي منذ نهايات عشرينات القرن الماضي وحتى الصدور، ولثمانين عامًا زاخرة بالإبداع والعطاء والتحولات الداهشة.
وللكتاب زيارة أخرى.