مقالات

قراءة مكملة لمقال الدكتور ياسين سعيد نعمان “مكر التاريخ”

17/11/2025, 12:49:54

لا يستطيع قارئ منصف تجاهل القيمة التحليلية العالية التي حملها المقال الأخير للدكتور ياسين سعيد نعمان، ولا عمق تجربته السياسية الممتدة التي تشكّل رصيدًا نضاليًا لا يُستهان به. فالرجل يتحدث من موقع الشاهد والفاعل، ومن زاوية ترى المشهد اليمني بقدر من الهدوء والخبرة قلّ أن تتوفر اليوم في خضم الصخب الدائر.

يقدّم المقال قراءة مكثفة لفكرة “مكر التاريخ” كما صاغها هيجل وماركس؛ تلك القوة الخفية التي تجعل الأحداث تنقلب على صانعيها، وتحوّل طموحات البشر – وأخطائهم – إلى نتائج لم تخطر لهم على بال. فالتاريخ، في هذا التصور، ليس دفترًا للوقائع، بل عقلٌ يتصرف ببرودة وصرامة، ويعيد ترتيب المشهد وفق قوانينه الخاصة.

يتناول مقال الدكتور ياسين سعيد نعمان فكرة "مكر التاريخ" بوصفها قانونًا عميقًا يجعل الأحداث تنقلب على صانعيها، مستفيدًا من الرؤية الهيجلية–الماركسية التي ترى أن التاريخ ليس مجرد وقائع متتابعة، بل قوة فاعلة تُعيد تشكيل النتائج بطرق غير متوقعة. يبدأ الكاتب بعرض هذه الفكرة فلسفيًا، ثم ينتقل إلى أمثلة من التاريخ العالمي – من العباسيين إلى التجربة الأميركية في أفغانستان، ثم السوفييت وسوريا – ليبيّن كيف تتحول الأدوات السياسية إلى نقيض غاياتها حين تُدار بوعي ناقص أو بمنطق القوة لا بمنطق الدولة.

ومن هذا المدخل، يصل الكاتب إلى اليمن باعتبارها النموذج الأوضح لدهاء التاريخ. فالمكتسبات اليمنية الكبرى – الاستقلال، الجمهورية، الوحدة – لم تُنتج ثمارها الطبيعية لأن إدارتها تمت بأدوات ما قبل الدولة، أي بأساليب تقليدية ومراكز نفوذ غير مؤسسية، مما جعلها تنقلب على نفسها بمرور الزمن. ويرى الكاتب أن جميع الأطراف، من الحزب الاشتراكي إلى تحالف المنتصرين في 94، ثم الحوثي، وقعوا بدرجات مختلفة في هذا الفخ التاريخي. ويؤكد أن الحوثي تحديدًا كان آخر من اصطدم بهذا المكر: أولًا حين حاول استعادة الإمامة فأعاد إحياء الروح الجمهورية، وثانيًا حين تجاوز حجم قوته معتقدًا أن السيطرة العسكرية تعني امتلاك المستقبل.

وهنا يبلغ “مكر التاريخ” ذروته: كل مشروع يتصادم مع قوانين الدولة والعقد الاجتماعي يُجبر التاريخ على كشف هشاشته، مهما بدا قويًا في لحظته.

وتتمحور رسالة المقال حول أن التاريخ يمتلك منطقه الخاص الذي لا يرحم المشاريع السياسية غير المتسقة مع قواعد الحياة والدولة الحديثة. فالمشاريع التي تُدار بأدوات الغلبة لا بأدوات التعاقد الاجتماعي تنتهي إلى نقيض مرادها، مهما حققت من انتصارات مؤقتة. واليمن، في نظر الكاتب، تجسيد لهذه الحقيقة: كل من ظن أنه يمسك بخيوط اللعبة اكتشف أنه جزء من حركة تاريخية أعقد منه.

تتجلى نقاط القوة في المقال في عمقه الفلسفي وهدوء نبرته، وقدرته على الربط بين التجربة اليمنية وتجارب عالمية مختلفة، إضافة إلى تشخيصه الدقيق لجذر الأزمة اليمنية: غياب الدولة الوطنية وإدارة المنجزات بأدوات ما دون الدولة. كما يتميز النص بقدرة تحليلية لافتة في قراءة المسار الحوثي، وبأسلوب لغوي يجمع بين المتانة البلاغية والوضوح.

وما أطمح إليه هنا ليس نقدًا لمقاله، بل قراءة مساندة ومكملة، تسعى إلى توسيع بعض الزوايا التي لامسها مقاله دون أن يتوقف عندها تفصيلًا، خصوصًا تلك المتعلقة بتحالفات الفشل التي صنعت مآلات اليمن خلال العقود الثلاثة الماضية.

- تحالفات القوة التي ابتلعت الدولة:

ما طرحه الدكتور ياسين بشأن مسارات التحالفات اليمنية دقيق ومهم: فقد تشكلت الدولة اليمنية الحديثة – منذ لحظة اكتمال الوحدة – داخل شبكة متداخلة من المصالح أنتجت «دولة برأسين» تُدار بمنطق المراكز لا بمنطق المؤسسات.

غير أن ما يستحق الإضافة هنا هو أن تلك التحالفات لم تكن مجرد انحراف سياسي، بل كانت بنية حكم كاملة وظّفت القوة على حساب العقل، حتى تورمت أدوات الغلبة داخل الدولة نفسها، فابتلعتها من الداخل قبل أن تسقط من الخارج. كما أشار الدكتور ياسين إلى فشل التحالف المنتصر في الدفاع عن الوحدة، يمكننا أن نرى هنا كيف تحول ذلك إلى نظام يعتمد على الولاءات الشخصية بدلًا من القوانين. وهكذا، يتجلى مكر التاريخ في تحويل أدوات القوة إلى عوامل تفكك.

- وثيقة العهد والاتفاق… لحظة ضائعة شكلت مفترقًا:

من بين النقاط التي مرّ بها الدكتور ياسين دون إشباع، تأتي وثيقة العهد والاتفاق عام 1994. لقد كانت تلك اللحظة – كما يرى كثير من الباحثين – واحدة من أهم محطات التاريخ اليمني الحديث. فوثيقة العهد لم تكن مجرد تسوية سياسية، بل كانت مشروعًا متكاملًا لبناء دولة مؤسسية حقيقية، تقوم على نصوص واضحة في توزيع السلطة، وتحصين المؤسسات، وتهدئة صراعات مراكز النفوذ، وفصل العسكري عن المدني – مثل بند توزيع السلطات الذي كان يهدف إلى منع تركيز القوة في يد واحدة.

ومن هنا تأتي المفارقة التي تستحق التوقف: فكما تردد الحزب الاشتراكي في بعض اللحظات ولم يتمسك بالوثيقة حتى اللحظة الأخيرة، أخطأ نظام الرئيس صالح كذلك حين تعامل معها كاستراحة سياسية مؤقتة، لا كفرصة تاريخية لنزع فتيل الصراع. لقد وقع الطرفان – دون استثناء – في «مكر التاريخ»، فُفتح الباب لحرب 1994 التي غيّرت مسار اليمن جذريًا، وقادت إلى تكريس دولة الرجل الواحد، وتكثيف القبضة الأمنية والعسكرية، وتفريخ مراكز القوة التي ستعود لاحقًا لتقوّض الدولة نفسها. وهكذا، يبرز مكر التاريخ في تحويل فرصة التوافق إلى بداية الانهيار.

- ما بعد 1994: دولة بلا مشروع… ومشاريع بلا دولة:

منذ لحظة ما بعد الحرب، تحولت الدولة اليمنية إلى ساحة لثلاثة مسارات متوازية:

توسع نفوذ التحالف القبلي-العسكري الحاكم.

تراجع القوى المدنية والحزبية التي كان يمكن أن تشكل رافعة لمشروع الدولة.

بدء تشكل شبكات مصالح إقليمية ودولية داخل بنية النظام نفسه.

هنا تبدأ جذور الفشل الذي نعيشه اليوم؛ فدولة ما بعد 94 لم تكن قادرة على استيعاب نفسها، فضلًا عن أن تستوعب بلدًا متعدد البنى والهويات. كما يتردد صدى ذلك في تحليل الدكتور ياسين لفشل التحالفات، حيث يؤكد أن المشروع الوطني لا يمكن إدارته إلا بدولة وطنية. وهكذا، يتجلى مكر التاريخ في إنتاج دولة هشة من انتصار عسكري.

- من مراكز القوة إلى انهيار الدولة:

ما يلفت الانتباه في قراءة الدكتور ياسين – وتلتقي معه هذه المقالة فيه – أن القوة حين تصبح مشروعًا بذاتها تلتهم أدواتها أولًا، ثم تلتهم الدولة كلها.

فقد تحولت أدوات الحكم بعد 94 إلى شبكة مصالح متضاربة: كل مركز قوة يريد أن يكبر، وأن يحدد مسار الدولة وفقًا لمصلحته الخاصة، حتى انتهى الأمر إلى فراغ سياسي شامل، استغلته قوى محلية وإقليمية، لتبدأ عملية إسقاط الدولة من الداخل قبل أن تتدخل أطراف الخارج بعد 2011. وهكذا، يبرز مكر التاريخ في تحويل الغلبة إلى سبب الضعف.

- نحو قراءة جديدة والتزامات وطنية:

نكتب لأن اللحظة الراهنة ليست بعيدة عن تلك اللحظة الضائعة في عمان.
نكتب لأن اليمن – وبكل وضوح – لن ينهض إلا بمشروع دولة حقيقية: دولة تعرف كيف تقيم التوازن بين سلطاتها، وكيف تحمي نفسها من مراكز القوة، وكيف تجعل من العمل السياسي عملية مؤسسية لا مغامرة شخصية.

وما يقدمه الدكتور ياسين من مقالات تحليلية، هو جهد وطني مهم يعيد النقاش إلى مساره الصحيح: مسار التفكير في الدولة، لا في الجماعات، ولا في الميليشيات، ولا في أعراف الغلبة.

وهذه المقالة ليست سوى قراءة رافدة لذلك الجهد، ومحاولة لتسليط الضوء على زاوية محددة: أن وثيقة العهد والاتفاق كانت لحظة تأسيسية لم تُستثمر، وأن قراءة التاريخ بإنصاف تعني الاعتراف بمسؤوليات الجميع دون انتقاص أو تجريح، وبتقدير كبير لنضالات من حملوا همّ اليمن – ومنهم الدكتور ياسين – حتى وإن اختلفت المقاربات.

دعونا نستلهم من هذه الدروس لإعادة بناء اليمن على أسس مؤسسية، بدءًا من حوار وطني يعيد قراءة الوثائق التاريخية مثل وثيقة العهد، ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني الأخير، ويضع توصيات عملية مثل تعزيز استقلالية المؤسسات، وتفعيل آليات العدالة الانتقالية، وتشجيع مشاركة القوى المدنية في صياغة عقد اجتماعي جديد. هكذا فقط، يمكننا تجاوز مكر التاريخ وصنع مستقبل يعكس إرادة الشعب اليمني.

مقالات

محمد الروح الواقفة

محمد المياحي مقيد الجسد في حجرة مظلمة، لكنه صار تجربة شاملة للوجود ذاته، تجربة تتجاوز قيود السجن الماثل أمامه. أسوار الحوثية وسجنها لا تستطيع أن تمحو جوهر محمد، أو أن تحجب روحا تعرف أنها أكبر من السجن وأكبر من السلالة التي وضعته فيه.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.