مقالات
قريتي
"أبيع نصف ما تبقّى من العمر
في وجبةٍ ريفيةٍ تحت شجرة التالوق
وبالقرب من جدولٍ لا يكفُّ عن الغناء
وعلى مرمى حجرٍ منه ترتع الأبقار".
كلما قرأتُ لأحدهم كتابةً عن قريته وذكرياته فيها، بما سطّرته فترة طفولته في حقولها، وما اختطّته سنوات مراهقته بين دروبها، هاجت نفسي واهتاجت مشاعري، ثم حزنتُ لأنني حُرمتُ من تلك الذكريات، أو -بالأصح- من طبيعة تلك الحياة.
وكانت القرية - ولا تزال - موضوعاً مُحبّباً للكتابة عند كثير من الأدباء والكُتَّاب، وهي زاد لا يشِحّ ومعين لا ينضب للكتابة، أكانت قصصاً وروايات أو أشعاراً وحكايات أو خواطر ومقالات.
"في المدينة العيدُ للأطفال وحدهم
وفي القرية العيد للجميع
سكان المدينة تموت طفولتهم في العاشرة
أما سكان القرية فلا تكبر طفولتهم".
أمسك أحياناً بالقلم وأخوض به غمار الورقة، مُتخيّلاً حياتي في القرية - أية قرية - طفلاً يلعب مع صغار البهائم: هذا العجل صديقي .. وذاك الجحش رفيقي .. وتلك العنزة الصغيرة الفاتنة أميرة أحلامي. ثم أضجر من اللعب مع أفراد الشلّة العزيزة، فأذهب لألهو بين الشجيرات .. أقطف من هنا وردة، ومن هناك سنبلة أو نبتة مما أزدان بها الحقل على اختلاف أشكالها وألوانها وروائحها وأغراضها. فإذا ما انتصف النهار أروح أُطارد الدجاج والحمام وسائر الطيور فأُقلق راحتها وأضجَّ ساحتها.
غير أنني أصحو فجأة من خيالاتي القروية فأكتشف أنها خيالات زائفة ليس لها وقع الواقع أو نبض الحقيقة، فأنا ابن المدينة البائس لم أعرف الخضرة في حقول حياتي قط، إنما في اللوحات والكتب والدفاتر، ولا كانت لي أية علاقة بالحيوانات اللطيفة، عدا علاقة الصراع اليومي مع الكلاب والقطط والغربان في شوارع الحيّ وأزقّة الحارات. حتى حديقة الحيوانات في الأطراف النائية للمدينة أُغلقت أبوابها منذ زمن بعيد، بعد أن نفق سكانها جراء وباء أو اهمال أو مجاعة.
"في المدينة يتحدثون عن الفصول
يقرأون عنها في الكتب
ويكتبون عنها في الصحف
لكنهم لا يعرفونها..
ولا يعرفون تناوب الألوان
في التلال والمنحدرات".
كيف تبدو نساء القرى؟ لا شكّ في أنهن أكثر جمالاً وأنوثة من نساء المدن.
هكذا أرى وأتخيّل.
وأعتقد يقيناً أن القرية أنثى، فيما المدينة رجل شاحب من سطوة الأمراض.
والمرأة في القرية هي القرية ذاتها، وهي سرّ الأرض باخضرارها وعمارها وحبورها، وسرّ جميع الألوان.
إن معظم القرى صارت تسكنها النساء فقط، بعد أن هجرها الرجال إلى أسطورة المدينة الكاذبة. ويهجر الرجال قراهم لتعمير المدن أو بلاد الآخرين، تاركين صلصال الحياة في القرية في أيدي النساء، فيتشكّل الطين في أيديهن حنَّاء، ولكنه حنَّاء مغموس بالدم وملتهب بالحنين ومقهور بالهجر.
"سؤال:
تُرى كيف تصبح قريتنا
أنْ خلت من جميع النساء؟
وهل يورق الورد على ضفاف الجداول؟
هل يكتب الشعر أغنيةً؟
هل ستبقى القرى؟
هل سيبقى الكلام؟".
سأنام الليلة وأتخيَّل قريتي..
سأتمنى لو جاعتني القرية في المنام ..
سأحتضنها بكل قوتي .. لن أتركها تفلت مني أو تغيب عني للحظةٍ واحدة، فقد سئمت المدينة بكل ما فيها، وبكل ما لها وما عليها ..
ولكن ... يا لحسرتي ... أين قريتي؟
-----
* الأبيات بين الأقواس من "كتاب القرية" للدكتور عبدالعزيز المقالح