مقالات
قصعة القذافي!
في صيف العام 1994م، تلقَّيتُ دعوة من جهة سيادية ليبية لزيارة "الجماهيرية"، وحضور الاحتفالات التي تُقام هناك سنوياً لإحياء ذكرى 'ثورة الفاتح من سبتمبر'، والمشاركة في فعاليات ما كان يُسمى يومها 'المؤتمر القومي العربي' - أو شيء من هذا القبيل - الذي يُعقد في القلب من تلك المناسبة واحتفالاتها.
وكان الوفد اليمني المسافر لهذا الغرض - والذي يضمّني في تكوينه - يحوي عدداً من ساسة الأحزاب - في السلطة والمعارضة معاً - ومثقفين وصحافيين وأشياء أخرى. وهؤلاء كان أبرز ما يجمعهم تلك العلاقات الشخصية الحميمة برغم تنافُر السياسات وتعارُض الأيديولوجيات وتقاطُع المواقف، أي ما يجمع اليمنيين في الغالب: الاخواني والشيوعي والسُنّي والشيعي والبروفيسور والأُمّي والتاجر والشحاذ.
ولأن الدخول إلى ليبيا، والخروج منها أيضاً، يمر براً بمصر، فقد تحمستُ كثيراً لهذه الزيارة. فقد عزمتُ النيّة على قضاء بضعة أيام في القاهرة بعد العودة من طرابلس، للاستجمام والاطلاع على جديد المكتبات ودُور السينما والمسرح - وهذا ما تحقّق لي بالفعل - عدا الالتقاء ببعض الأصدقاء والزملاء الذين غادروا اليمن جراء الحرب التي اندلعت قبل شهور قليلة واستقروا هناك، ك: أحمد الحبيشي ومحمد قاسم نعمان وعبدالباسط سروري وعمر باوزير وآخرين عديدين. وقد استضافني صديقي الودود عبدالله سلام الحكيمي - حينها - في شقته بمدينة نصر، مع عدد من رفاق الرحلة، بكل حفاوة ومودّة وكرم.
كانت الرحلة من القاهرة إلى طرابلس - والعكس - طويلة جداً ومرهقة جداً، ولكنها كانت دافئة ولطيفة للغاية لدفء ولُطف معشر رفقاء السفر، بغضّ النظر عن بعض المناكفات السياسية والتحقيقات الأمنية التي أعترضتنا في المنفذ الحدودي المصري، وهي عادة قديمة من تراث جهاز صلاح نصر وتلاميذه الأوفياء لهذا التراث!
وكان أول ما صدمني وآخرين - ممن كنا نزور ليبيا لأول مرة - فور دخولنا طرابلس وتجوالنا في شوارعها ومؤسساتها هي تلك الشعارات الشمولية المعادية للديمقراطية والتعددية، التي تعيدك -بالذاكرة- إلى زمن عدن أيام الحزب الواحد، وزمن صنعاء أيام الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني، من قبيل شعارات "الحزبية تبدأ بالتأثُّر وتنتهي بالعمالة" و "من تحزَّب خان"!
ولا تلبث أن تصحو من هذه الصدمة حتى تدهمك المهرجانات الخطابية الكئيبة، التي لا تدري من أين يزحف إليها كل ذلك السيل الهادر من الكلام عالي النبرة ومتوتر الموجة ومشحون اللغة؟ .. وكله كوم والقذافي كوم آخر.
يومها راح الأخ العقيد يخطب لساعات، مُهاجماً الجميع بلا استثناء، بمن فيهم ضيوفه الذين حضروا للاحتفال معه في داره، من دول شتّى، لاسيما من أصقاع القارة السمراء.
كما هاجم القذافي، أيضاً، شعبه الذي وصفه بأنه شرذمة من مسلوبي العقول والسكارى الذين أطاحت "البوقة" برؤوسهم، وهي التسمية المتداولة لنوع من الخمر محليّ الصنع ورديء الصنف (يعني خمر بلدي خايس).
ولكن الطريف الذي ظللنا ننكّت عليه - في خطاب العقيد يومها - هو تشبيهه لبلده وشعبه بأنهم مثل "القصعة" التي يتكالب عليها الأكَلَة من كل حدب وصوب (والقصعة هي آنية الطعام بالفصيح المُهمَل من كلام العرب العاربة).
وقد كانت تلك اشارة سافرة - ربما - إلى تهافُت بعض العواصم والأحزاب والجهات على المال الليبي الذي كان يومها "زي الرُز" بحسب الوصف السيسي الأثير!
والحق يُقال: هذه الإشارة صحيحة إلى حدٍّ كبير. فقد كانت ثمة أحزاب وحكومات وصحف ومؤسسات وشخصيات عربية وأفريقية وغيرها (وبضمنها يمنية بالطبع) تقتات من دولارات القذافي بانتظام، مقابل نفاق زائف وولاء كاذب، وتحت مُسمّى قومي كبير ويافطة نضالية براقة!
عدتُ من تلك الرحلة بعد أن أصابتني قصعة القذافي بأزمة نفسية، حالفاً بأغلظ الأيمان عدم تكرار هذه التجربة. وبالفعل تلقيت ثلاث دعوات بعدها لزيارة ليبيا في العهد الثوري نفسه، غير أنني كنت أعتذر في كل مرّة، ولسان حالي يقول: من تقصَّع خان!